بريطانيا… بين الطلاق أو البقاء في الاتحاد الأوروبي- الجزء الثاني
في الجزء الأول تحدثنا عن اسباب الانفصال اما في الجزء الثاني فسنناقش نتائج الانفصال. لا شك أن مغادرة بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون له ثمن اقتصادي باهظ، ولا سيما خسارتها النفوذ إلى الأسواق الأوروبية، على الرغم من محاولة المشككين في الاتحاد الاوروبي التقليل من ذلك. فبريطانيا في حال خروجها من النادي الأوروبي ستجد نفسها مرغمة على إعادة التفاوض حول العديد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأخرى، وستضطر كذلك إلى مراجعة الكثير من التشريعات التي أقرتها لتنفيذ قرارات على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيشكل عبئاً اقتصادياً كبيراً يصعب التكهن بتكاليفه. فما هي النتائج الناجمة عن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
أولاً: الحفاظ على وظائف الملايين من البريطانيين. يُعَدّ الاتحاد الأوروبي أكبر سوق صادرات بالنسبة إلى بريطانيا، حيث اشترت الدول الأوروبية ٥٣% من منتجاتها في عام ٢٠١١. كذلك يقدم هذا القطاع، بنحو مباشر وغير مباشر، ٣ ملايين وظيفة للبريطانيين، وفق ما أشار إليه نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق، نيك كليغ، الرافض لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي. والأخطر أنه في حال مغادرة لندن السوق الأوروبية، ستخضع الصادرات البريطانية لرسوم جمركية كبيرة، وفي الوقت نفسه عليها تطبيق معايير الإنتاج الأوروبي .
ثانياً: المنافع الاقتصادية. لا توجد أرقام رسمية تحدد مدى الخسائر المترتبة على الاقتصاد البريطاني في حال مغادرة الاتحاد الأوروبي. «بنك إنكلترا» كشف أخيراً أنه يدرس حالياً المخاطر الاقتصادية التي قد تنجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن من المرجح أن تبقى سرية. إلا أن المؤشرات والبيانات الاقتصادية تظهر مدى حاجة بريطانيا إلى الأسواق الأوروبية لتصدير بضائعها، فضلاً عن واردتها الأوروبية. الأرقام الاقتصادية تبيّن أن المملكة المتحدة تستورد بضائع أكثر مما تُصدر إلى الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال: في عام ٢٠١١، صدّرت بضائع بقيمة ١٥٩ مليار إسترليني للاتحاد الأوروبي، بينما استوردت بضائع قيمتها ٢٠٢ مليار استرليني، أي العجز التجاري السنوي قيمته ٤٢ ملياراً .
عدم وجود إحصائية بريطانية دقيقة عن الخسائر المترتبة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، قد تتعمد لندن ذلك وفق بعض المراقبين من أجل تقوية ورقتها على طاولة المفاوضات في بروكسل. لكن دراسة ألمانية كشفت المستور وأشارت إلى أن خروج لندن من المظلة الأوروبية سيكبدها خسائر فادحة. ففي تقرير صادر عن منظمة «برتلسمان ستيفتونج» لفت إلى أن الخسائر البريطانية تقدر بنحو ٢٢٤ مليار جنيه استرليني في حال طلاقها لبروكسل. الدراسة أشارت أيضاً إلى أن القطاعات البريطانية الأكثر تضرراً من الانفصال عن السوق الأوروبية الموحدة ستتمثل في الكيمياويات والخدمات المالية والسيارات والهندسة الميكانيكية .
ثالثاً: حرية تنقل البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي. ينعم البريطانيون بحرية التنقل والعيش في أيٍّ من الدول الأوروبية الثماني والعشرين. وأشارت التقديرات إلى وجود أكثر من أربعة ملايين بريطاني يعيشون في دول الاتحاد الأوروبي .
رابعاً: محاربة الجريمة على المستوى الأوروبي، بحيث يضمن نظام مذكرة التوقيف الأوروبية التحرر من الإجراءات المعتمدة بين الدول لاسترداد المجرمين، وبالتالي يمثل المجرمون أمام العدالة في جميع دول الاتحاد الأوروبي .
خامساً: التأثير على المسرح الدولي. بات السوق الأوروبي يعدّ من أكبر الكتل الاقتصادية في العالم، ويؤدي دوراً مهماً في التجارة الدولية والتغيير المناخي والمشاريع التنموية في العالم. وتؤدي المملكة المتحدة دوراً محورياً في الكتلة الأوروبية على المستويات كافة، على اعتبار أنها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وواحدة من أهم القوى العسكرية، فضلاً عن كونها عضواً في مجلس الأمن الدولي ودولة نووية عضواً في حلف شمال الأطلسي. من هنا وجدنا تمسك الولايات المتحدة الأميركية ببقاء حليفها المهم في أوروبا. بمعنى آخر، ترى الولايات المتحدة أن دور بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي أهم بالنسبة إليها من دورها خارجه، وهو بالتالي ما يعقّد الأمور بالنسبة إلى البريطانيين أنفسهم. فالشريك الأهم الآن في أوروبا هو الاتحاد الأوروبي، وليس بريطانيا، والأميركيون سيحرصون على استمرار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة قضايا سياسية كبيرة، بينما سينعدم تقريباً دور البريطانيين فيها في حال خروجهم من الاتحاد .
يظهر في النهاية أنه في ميزان الربح والخسارة قد تفرض التقديرات مراجعة الحسابات عند الطرفين، فالمصلحة المتبادلة بين لندن وبروكسل قد تفرض تعديلاً يتلاءم مع هواجس المملكة المتحدة التي سيشكل خروجها سيناريو مليئاً بالخسائر بالنسبة إلى كلا الطرفين. ومع هذا، تشير التوقعات إلى أن الخسائر قد تكون أكبر بالنسبة إلى المملكة المتحدة من خسائر الاتحاد الأوروبي. لكن أوروبا تركت الباب موارباً في مسألة تفهم المطالب البريطانية، فأظهرت ليونة قد تفسر في الاستجابة لإجراء بعض التغييرات مثل تقييد حصول المهاجرين الأوروبيين على الخدمات العامة في بريطانيا. لكن الخطورة تكمن في المسار الذي سيسلكه كاميرون في مقاربة أزمة العلاقة مع أوروبا، فهو في موقف لا يحسد عليه: إما التلاعب بما يراه مصلحة قومية للمملكة لإرضاء رغبات صقور حزب المحافظين المشككين بأوروبا، فيُفقد بلاده فرصة حجز مقعد أساسي في بروكسل، أو أن يتعرض للإطاحة من صقور حزبه على غرار ما حصل لمصير سلفيه، رئيسي الوزراء مارغريت تاتشر والسير جون ميجور، في حال تبنيه البقاء في النادي الأوروبي .
ومن الممكن أن يثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أزمات سياسية أخرى في البلاد، وخاصة بعد إعلان الوزيرة الأولى في أسكتلندا، نيكولا ستورجيون، أن خروج بريطانيا قد يثير استفتاء آخر على استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد لا يؤدي إلى مشاكل سياسية واقتصادية كبيرة للبلاد فقط، بل قد يؤدي إلى تفكك المملكة المتحدة. ويبقى السؤال بريطانيا الى أين؟
المصدر / الوقت