بعد الإتفاق النووي، “الاقتصاد المقاوم” إلى أين؟
بعد الإنجاز التاريخي الذي حققته إيران في مسار الملف النووي بات الاقتصاد الإيراني بعد رفع العقوبات موضوعًا للكثير من المحللين والباحثين، ويرى البعض أن الانفتاح الاقتصادي على طهران سيعزز متانة الاقتصاد الداخلي وسيرفع من مستوى المعيشية في البلاد، وخاصة مع الاندفاع الكبير الذي أظهرته بعض الشركات الأجنبية للدخول إلى السوق الإيرانية التي استطاعت أن تحافظ على بريقها طوال سنواتٍ طويلة فُرضت فيها عقوبات اقتصادية كثيرة.
رغم أهمية التبادل الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية بالنسبة لاقتصاد أي دولة في العالم ومن بينها إيران، إلا أن الاقتصاد الإيراني يمتاز عن اقتصاد باقي الدول باعتماده استراتيجية محلية عنوانها “الاقتصاد المقاوم”، وهذه الاستراتيجية نجحت في جعل إيران تصمد أمام العقوبات الشديدة والتي امتدت لسنوات عديدة، ومن خلال هذه الاستراتيجية تمكنت إيران من تنمية الخبرات الداخلية والنهوض بها، كما وجعلت الاقتصاد الإيراني مرنًا محميًا من الصدمات والضغوط الخارجية التي كانت تحاول الدول الغربية فرضها على طهران لتتنازل عن حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية.
يقوم الاقتصاد المقاوم الذي اعتمدته إيران خلال سنوات الحصار على حماية الإنتاج المحلي ودعمه وتهيئة الظروف المناسبة لنموه بعيدًا عن المؤثرات الخارجية والعقوبات الدولية، وكذلك فإنه مبني على زيادة الإنتاج والتصدير وتعزيز الإنتاج المحلي لبعض السلع الاستراتيجية وتطوير الأسواق وتعزيزها في البلدان المجاورة، بالإضافة إلى زيادة الخصخصة ورفع صادرات الكهرباء والغاز والبيتروكيماويات ومنتجات النفط بدلاً من النفط الخام الذي مُنعت إيران من تصديره في السنوات الأخيرة.
في المجمل يمكن تلخيص خطة الاقتصاد المقاوم التي طرحها قائد الثورة الإسلامية السيد الخامنئي بأنها الخطة التي ستجعل الاقتصاد “مرناً، أي إنها تقوّي مناعة اقتصاد البلاد، في مواجهة الضربات والرجّات الخارجية المختلفة”، وهي التي تجعل من الاقتصاد الإيراني اقتصادًا مبني على العلم والتكنولوجيا والعدالة، ليكون هذا النمط من الاقتصاد نموذجًا عن الاقتصاد الإسلامي القائم على الثروة الفكرية والعقول المتواجدة داخل حدود الدولة، وذلك لبناء اقتصاد قوي ومستقل غير مرتبط بالاقتصاد العالمي، بعبارة أخرى يمكن تعريف الاقتصاد المقاوم بأنه يعني التمركز حول الإمكانيات والقدرات الذاتية، والتمحور حول الداخل والعمل على تقويته، بحيث يصبح الاقتصاد قادر على تحمل التوترات والتهديدات الخارجية من قبيل العقوبات والمقاطعات الاقتصادية.
فعلا نجحت طهران من خلال الاعتماد على الاقتصاد المقاوم بتجنب الانهيار الاقتصادي والمحافظة على اقتصاد مستقر طيلة فترة العقوبات، وهذه الخطة لن تقتصر على زمن الاقتصاد الصعب، فبعد البدء برفع العقوبات عن طهران كشفت الحكومة الإيرانية عن نيتها في الاستمرار بالاقتصاد المقاوم لحماية الاقتصاد الداخلي والحفاظ عليه بعيدًا عن المؤثرات الدولية غير المضمونة، واعتبر الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه ينبغي على الجميع “المشاركة لإضفاء المزيد من التحرك على سياسات الاقتصاد المقاوم”.
اعتماد إيران على هذا النوع من الاقتصاد بعد الاتفاق النووي يعني نجاحها في تطبيقه وتسخيره لكشف المنابع الداخلية التي استطاعت أن تضفي على الاقتصاد الإيراني حالة أشبه ما تكون بالاكتفاء الذاتي، وخاصة أن إيران استطاعت أن تحذف النفط من ركائز اقتصادها وهذا ما جعل الاقتصاد الإيراني أكثر مناعة أمام تبدلات السوق الدولية من اقتصاد باقي الدول المنتجة للنفط، ولهذا نجد إيران مصرة على متابعة هذه الخطة بعد الاتفاق النووي، وخاصة بعد تدهور أسعار النفط في السوق العالمية، كما أن طهران باتت تؤمن أن الطريق الوحيد لتطوير الاقتصاد الإيراني يعتمد على الداخل بشكل رئيسي، وما رفع العقوبات إلا دعامة غير ارتكازية لهيكل الاقتصاد الإيراني.
في هذه الأثناء تحاول بعض الدول كأمريكا التغطية إعلاميًا على نجاحات إيران التي حققتها من اعتماد الاقتصاد المقاوم، وتسعى واشنطن إلى البدء بمشروع يهدف إلى فرض عقوبات جديدة على طهران تحت ذريعة الصواريخ البالستية الإيرانية، ويبني الأمريكيون آمالهم على أن تضفي هذه العقوبات قلقًا واضطرابًا نفسيًا في الداخل الإيراني يسبب توترًا في الأجواء ويعكر فرحة الانتصار الكبير الذي حققه صمود الشعب الإيراني طيلة الفترة الماضية.
أصبحت إيران قوة اقتصادية كبيرة في العالم لا يمكن إنكارها، ولا تعني هذه القوة ميزانية وأمولاً ضخمة بقدر ما تعني استقلالية ومتانة يقوم عليها الاقتصاد الداخلي، وهذا ماجعل طهران مقصدًا تجاريًا ضخمًا تؤمه كبرى شركات العالم لتجد فيه اقتصادًا آمنًا بعيدًا عن التذبذبات الاقتصادية العالمية، ولهذا نجد أن الكثير من شعوب العالم ومنها الشعوب العربية باتت ترغب بتفعيل العلاقات الاقتصادية مع طهران التي انفردت بنموذج اقتصادي مثالي وحصري.
المصدر / الوقت