اعادة قراءة الثورة الاسلامية في الذكرى السابعة والثلاثون
الثورة الإسلامية في إيران هي واحدة من الأحداث الفريدة في العصر الحديث، وتمثّل بزوغ فجر جديد في تاريخ البشرية، والتي شکّلت مصدراً لآثار مدهشة في الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية و…، داخل إيران وخارجها. ومن المؤکد أن الشجرة الطیبة للثورة قد أثمرت من خلال ينبوع المعارف النقي والمعتقدات الإسلامية للشعب الإیراني المثابر والمضحّي، وعبر الاعتماد على الجذور الراسخة لخلفياته السياسية والاجتماعية والثقافية.
ولا یخفی علی أحد ضرورة دراسة الماهية وکذلك الأسباب والعوامل المساهمة في ظهور هذه الظاهرة، ومعرفة آثارها وبرکاتها. وحول الجوانب الفريدة لهذه الثورة المجيدة التي وقعت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، هنالك الآلاف من الكتب والمقالات والأعمال الفنية القيمة الأخرى. ونحن بمناسبة الذكرى السنوية لهذه الملحمة الكبيرة والصانعة للتاريخ، نستعرض بعض الجوانب الهامة منها فيما يلي:
مفهوم الثورة الإسلامية
إن الخطوة الأولى في دراسة أي ظاهرة، هي تبيين مفهومها. ولربما هنالك تعريفات عن الثورة بعدد العلماء الذين كتبوا عن مفهوم هذا المصطلح. هذه التعاريف لها أوجه التشابه والاختلاف فيما بينها بدرجات مختلفة، وكل واحد منها يكشف زاوية من زوايا الثورة.
مما لا شك فيه أنه لا يوجد توافق في الآراء على أي تعريف مرضٍ ومقبول بشكل عام لأي مفهوم. وفي دراسة تعاريف الثورة، نواجه مكونات مثل التغيير الجذري والهيكلي، تغيير المؤسسات، انتقال النخب، العنف والفوضى …، والتي دخلت في تعريف الثورات استناداً إلى تحليل الثورات العالمية.
وقوع الثورة الإسلامية في إيران، التي هي واحدة من أكبر الأحداث في تاريخ القرن العشرين، وتعدّ من الحركات الاجتماعية – السياسية الأكثر أهميةً، قد تحدى التعاريف الموجودة وكذلك نظريات الثورة، وأعقب الحاجة إلى تقديم تعريف جديد عن الثورة. غياب التوافق في الإدراك المفهومي للثورة، سببه تعقيدها بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً، الأمر الذي يعود إلى تعقيد وغموض الإنسان. مع ذلك من الجدير بالذكر أنه ربما يمکن من خلال فهم الإشارات والرموز الضمنية لمثل هذه التغييرات، الحصولُ علی صورة مرضية لمعنی الثورة.
الثورة الإسلامية لها خصائص فريدة تميزها عن الثورات الأخرى في العالم، وتقدم مفهوماً جديداً للثورة. وبعض هذه الخصائص هي ما يلي:
– التمتّع بخلفية كبيرة من الفلسفة والفقه والمعارف الإسلامية.
– ثورة اجتماعية شاملة مع تغيير جوهري في حياة الناس.
– الإستناد إلى الثقافة والاعتقاد والإيمان في مراحل الصعود وبناء الثورة.
– الاستفادة من النهج القيمي والعمل علی إصلاح المفاسد العالمية والإنسانية.
– تحکيم الثقافة التوحيدية بدلاً من الثقافة الإلحادية والاستبدادية.
نموذج الثورة الاسلامية
قبل وقوع الثورة الإسلامية في إيران، وبالنظر إلی سيادة فکرتي الإنسانية والمادية في العالم، کان یقال بأن أنظمة الحكم يجب أن تقوم علی إحدى الطريقتين حصراً: الديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية الاجتماعية، وإذا حدثت ثورة في العالم، فليس لديها خيار سوى الاعتماد على فكرة الإنسانية أو المادية، ويجب أن تكون مدعومةً من قبل إحدی الکتلتين الشرقية أو الغربية. فوفقاً لذلك، أراد الكثير من منظري الثورة، تحليل الثورة الاسلامية في إيران في إطار أحد هذين التفکيرين، بينما أن الثورة الإسلامية سواءً في التأسيس والانتصار، أو في الأهداف الخاصة بها، کانت بمعزل عن هذين التفکيرين. بل کانت تحدياً ضد النظام الأخطبوطي للرأسمالية العالمية من جهة، والنظام الماركسي الإلحادي من جهة أخرى، ولأنها كانت مستقلةً، فلم تتفاعل مع أي منها.
في الحقيقة، لقد وقعت الثورة الإسلامية في عصر تُرك فيه الدين، حيث کان الدين یُعرَّف بأنه مخدر المجتمعات، ووضعت شعار ضرورة هندسة الدين في الحياة الشخصية والاجتماعية للإنسان، أولويتها الأولی، معتبرةً أن نموذجها هو بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر الإسلام، ورسالتَها هي رسالة الأنبياء. فكما أن الإسلام مدرسةٌ وخطةٌ للحياة، بل وثورةٌ في الأساس، فبطبيعة الحال، إن الثورة التي تستند إلیه، طبیعتُها هي طبیعة الإسلام أیضاً. وبالنظر إلى احتذاء الثورة حذوَ بعثة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن نهج البحث عن التشابه بينهما، سيقودنا إلى تمیُّز وفرادة الثورة الإسلامية في العصر الحديث.
رسالة الثورة الاسلامية
كل ثورة مثل الزلزال أو البركان، تترك تأثيرات إقليمية ودولية مختلفة المستویات، وتقدّم رسالةً من أجل خلق عمقها الإستراتيجي. وکلما کانت رسالة الثورة أكثر جاذبيةً، سیتّجه عددٌ أکبر من الناس لقبولها ودعمها والاحتذاء بها. الثورة الإسلامية في إيران والتي ميزتُها الأساسية هي الاعتماد على النظرة العالمية الإسلامية، حدثت في وقتٍ كانت الحركات الليبرالية والاشتراكية قد فقدت جاذبيتها. وعلى الرغم من أن العديد من المثقفين اليساريين مازالوا یحاولون القول بأن الأيديولوجية الوحيدة لتعبئة الشعوب هي الماركسية، تقدّم الثورة الإسلامية للشعب الإيراني رسالةً إلى العالم، مفادها أن الأيديولوجية الأکثر قدرةً علی التعبئة هي الإسلام. والإسلام مدرسةٌ ليس فقط تمتلك القدرة على تنظيم نضال كبير، بل في هذا العصر الآلي المعقَّد، مع كل الصراعات والتناقضات التي تحتويها السياسات العالمية، قادرةٌ على حل مشاكل المجتمع وإدارته، وضمان بقاءه واستمراریته. وبعبارة أخرى، إن الثورة الإسلامية في إيران، فتحت جبهةً جديدةً أمام جميع المحرومين والمظلومين، الذين یعانون من فشل وويلات الحضارة الاستعمارية المفروضة علیهم، وإن شعار “لا شرقية ولا غربية” الذي ترفعه هذه الثورة، يشير إلى رفضها لأي ظلم واضطهاد تتعرض لهما البشرية.
يمكن الإشارة إلی بعض الرسائل التي تحملها الثورة الإسلامية على النحو التالي:
– ضرورة خروج الإنسان من العبودية والاسترقاق للطاغوت، والخلاص من الذل والهوان.
– الإقبال علی العبودية لله تعالی والفلاح.
– الإعتراض علی کل المساوئ والانحرافات والاضطرابات.
– اعتماد الحکومة والسلطة السياسية علی التقوی والعدالة والحقیقة.
وباختصار، إن رسالة الثورة، هي رسالة الروحانية، أي إن الإنسان الحائر اليوم الذي سئم من عدم تلبیة المتطلبات الأفضل والأسمی، وعدم رؤية وامتلاك الإخلاص والعطف والمحبة، وعدم الحصول على معرفة سامیة، أخذ یبحث عن مدرسة تلبّي بالإضافة إلى احتياجاته المادية، الاحتياجات الروحية أيضاً، ولأنه شاهد أینما نفذت هذه الثورة، نقلت معها الروحانية أیضاً، فوجد ضالته في رسالة الثورة الإسلامية. لذلك، يمكن القول بيقين إن نهج التدين الراهن الذي تنامی وتوسَّع في العالم المعاصر، هو نتيجةٌ لتلقي هذه الرسالة.
أركان الثورة الإسلامية
إن تشكيل أي ثورة بحاجة إلی عنصر فكري وعاملين بشريين. فالعنصر الفكري هو نفس الأيديولوجية والمدرسة التي تقوم عليها الثورة، والعنصران البشريان أحدهما الشعب والآخر القیادة. وکلما اصطفّت هذه العناصر الثلاثة إلی جانب بعضها البعض، واتجهت باتجاه واحد، ستتشکل الثورة. وبديهيٌ أنه کلما کانت قوة هذه الأركان الثلاثة أکبر، زادت سرعة تشكيل وانتصار الثورة. أما الأركان الثلاثة فهي:
الف – المدرسة الفکرية
تقوم الثورة الإسلامية في إيران على أساس الفكر والنظرة العالمية الإسلامية. وینشأ ویتشعّب من هذه النظرة العالمية الإلهیة، تفسير الإنسان، تفسير التاريخ، تحليل أحداث الماضي والحاضر والمستقبل، تفسير الطبيعة، شرح کل الاهتمامات التي تربط الإنسان بالعالم الخارج عن وجوده، أي العالم والأشياء والناس، وكذلك فهم الإنسان عن وجوده، وباختصار، كل ما يشکّل النظام القيمي للمجتمع، ويمكّنه من إدارة نفسه بالطریقة المثلى.
وبالنظر إلی أن هناك انطباعین منحرفین ومتناقضين عن الإسلام في المجتمع، أحدهما هو الفهم الضيق والمتعصب والمتخلف، والآخر الفهم الحديث والمتسامح، فإن قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني (رحمه الله) قد عرَّف للمجتمع الانطباع الصحیح باسم الإسلام الأصيل، والمضی بالثورة علی أساسه. فمن وجهة نظر الإمام الخميني(رحمه الله):
في الثورة الإسلامية، تم استبدال إسلام الخرافات والبدع بإسلام القرآن والسنة؛ إسلام القعود والعبودية والذل، بإسلام الجهاد والاستشهاد؛ إسلام الالتقاط والجهل، بإسلام التعبُّد والتعقُّل؛ إسلام حبّ الدنیا أو الرهبانیة، بإسلام الدنيا والآخرة؛ إسلام التعصب والجهل، بإسلام العلم والمعرفة؛ إسلام التحلل الأخلاقي واللامبالاة، بإسلام التديُّن والسياسة؛ إسلام الخمول والاكتئاب، بإسلام النهوض والعمل؛ الإسلام الشکلي والعديم الفائدة بإسلام الفرد والمجتمع؛ إسلام الألعوبة بید القوى الکبری، بالإسلام المنقذ للمحرومین؛ وباختصار تم استبدال الإسلام الأمريكي، بالإسلام المحمدي الأصيل (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إن الأساس الأكثر جوهريةً للنظرة العالمية الإلهية والإسلامية، هو أصل التوحيد، أي الإيمان بالله وبقدرته الغیبیة، وسیادة العلم والقدرة والعزة والجلال والجمال المطلق، وإرادته ومشيئته علی الكون، وجميع الأشياء الأخرى تعود بطريقة أو أخرى إلی التوحيد. وإن واحدة من أبرز وأهم المیزات في الثورة الإسلامية الإيرانية، هي أن الدین الإسلامي أصبح صانع الثقافة الوطنية، ولهذا السبب فإن أموراً مثل الجهاد، الشهادة، الاتباع من الإنسان التقي والعادل، كراهية الظلم والطغيان، الوحدة والتضامن، التوکل علی الله و …، باتت في قلب هذه الثقافة، وشکلت أساس الحركة الثورية للشعب، وحققت لهم الانتصار.
ب- القيادة
إن قوة وسلطة القيادة في الثورة الاسلامية بعد الاعتماد على الإسلام، تنبع من مكانتها الدينية، والتي يُشترط فیها وجود ميزات مثل الفقه، العدالة، العلم، المعرفة، الزهد، الإدارة، الشجاعة، البصيرة السياسية والتدبیر، خلافاً لغيرها من الثورات التي غالباً ما يأتي أناسٌ بوصفهم سياسيين محترفين، ویجلسون في موقع القيادة، عبر المال والتضليل.
الإمام الخميني مؤسس الثورة الإسلامية، عبر امتلاکه لكل الصفات المطلوبة للقيادة الدينية والإلهية، تولى قیادة الثورة الإسلامية وأظهر للعالم توجیهاته التي کانت تشبه توجیهات الأنبیاء. وأحد الفروق الرئيسية بینه وبین غيره من المصلحين في تاریخ الإسلام، هو أنه بالإضافة إلی حضوره في الساحة، قد بيّن للناس مبادئ عقيدته السياسية وأوصلهم إلی الإيمان المتبصر والواعي، وبعد إثبات أحقیة عقيدته السياسية، استطاع إدخال الشعب الإيراني شیئاً فشيئاً إلی ساحة المعركة، وبمرافقة هذا البحر العاصف والواسع، تمکَّن من تشكیل الثورة الإسلامية الكبيرة، وبالتالي، إزالة الآثار المشؤومة لسيطرة قوى الاستكبار علی هذا البلد، وتحويل العالم، بحيث لا يمكن مقارنة نهضته بأي نهضة أخری منذ صدر الإسلام إلی یومنا هذا.
ج – الشعب
إن أقوى أداة لدفع الثورة الإسلامية، کانت الحضور الجماهیري والحاشد لمختلف الشرائح الملیونیة للشعب في ساحات الثورة، الذین لبّوا نداء قائدهم بالإيمان النافذ والعميق من جهة، والمعرفة والوعي العاليين من جهة أخرى، وفي ضوء توجيهاته المستنيرة والنبوية، تسلّحوا بالصبر والمقاومة والقدرة على التحمل، وأخيراً ذاقوا الرحيق العذب للانتصار على نظام الهيمنة.
واحدة من السمات الأبرز للثورة الإسلامية والتي قلما وُجدت في ثورة أخری، هي طابعها الشعبي، بحيث شارك فیها کل الشعب الإيراني في المدن والأرياف، الكبار والصغار والرجال والنساء. وخلافاً للثورات الکبری في العالم والتي شارك فیها فئات معينة من المجتمع، فإن القائد الحالي للثورة الإسلامية الإمام الخامنئي، وفي تبيين أنه لماذا یعتبر الشعب الصاحب الرئيسي للنظام والثورة، يقول:
الشعب هم أصحاب هذا النظام لعدة أسباب؛ أولاً، لأن الإسلام یمنح معظم الحق في إدارة النظم الاجتماعية للشعب، ویعتبر أي جهاز حكمٍ، خادماً للشعب. وثانياً، لأن الناس هم الذين شکّلوا وأوجدوا هذا النظام، ذلك أن هذا النظام قائم على الثورة، والثورة خلقها الشعب. وثالثاً، لأن مشاركة وإشراف الناس یشکلان الضمان الأكبر لحفظ النظام من الانحراف.
الملخص والاستنتاج
إن الثورة الإسلامية تفسيرٌ إلهي وإسلامي، أي تطورٌ أخلاقي واعتقادي وثقافي، حیث المجتمع ومع استدارة قدرها 180 درجة، يزيح القيم المادية الناجمة عن الثقافة الإلحادية والاستبدادية المهيمنة علی المجتمع دفعةً واحدة، ويختار القيم التي ترتكز على الثقافة التوحيدية مع كل متطلباتها، ومع الانضباط الثوري العظيم، إذ يهدّم البناء القديم والمتآکل للماضي، یقوم بتحديث المجتمع.
والثورة الاسلامية في إيران کانت ضرورةً طبيعيةً وتاريخيةً على أساس التقاليد الإلهية، تجلّت باعتبارها رمزاً للحق في العصر الحديث. حيث المؤمنون الخلَّص والحقيقيون، وعبر الاستمداد بسنة النصرة الإلهية، نهضوا في عصر هجران الدين وغرق العالم في المادية، لنصرة دين الله تعالی، وبمثابة زلزالٍ في الجغرافيا الطبيعية للإنسان، فجّروا الطاقات المتراکمة في وجودهم، فسطعت أشعة نور الحق على العالم بأسره.
ومع الظهور الأعجوبي للثورة الاسلامية، بالإضافة إلى إثبات قدرة وفعالية الدين في إدارة الحياة الاجتماعية للإنسان، وجدت البشرية أمامها تجربةً ملموسةً وخطةً عملانيةً لإدارة حياة الإنسان على أساس العدل والروحانية، وتحقَّق مرةً أخرى نموذج بعثة الأنبياء مع رسالة الروحانية. وشعار خروج الإنسان من نير العبودية والاسترقاق للطاغوت، والخلاص من الذل والهوان، والوقوف في وجه کل المساوئ والانحرافات، اکتسب جاذبيةً، والإنسان التائه في الحضارة الآلية، وجد ضالته في تلبية المتطلبات الأفضل والأسمی في ظل الإسلام والنظرة العالمية التوحيدية.
المصدر / الوقت