سلوك السياسة الخارجية الروسية ، النزعة الأوراسية والنظرية الرابعة لا لكسندر دوغين
“النزعة الأوراسية” واحدة من أهم النظريات في السياسة الخارجية لروسيا، والتي يبدو أنها على مدى السنوات القليلة الماضية قد ترکت تأثيراً واضحاً على سياسات الكرملين. هذه النظرية ومن خلال التأكيد على الهوية المتميزة لروسيا من الغرب، تشدّد على أن موسكو يجب أن تتخذ مواقف مستقلة في الساحة الدولية. بالطبع نظرية النزعة الأوراسية تقول بإقامة العلاقات والتحالف مع القوى الإقليمية، بما في ذلك إيران أيضاً.
“الكسندر دوغين” الذي أسموه بالعقل المدبر وراء سياسات الكرملين و”عقل بوتين”، من المفكرين الحاليين الأكثر شهرةً في روسيا، ومؤسس تيار النيو الأوروبية الآسيوية الفكري، ومن أشد منتقدي “العولمة” في هذا البلد. إنه يعتقد أن على روسيا أن يكون لها حضور مؤثر في السياسة العالمية، وتتولّی قیادة التیار المناهض للديمقراطية الليبرالية. هذه النظريات نفسها هي التي أدت بوزارة الخزانة الأمريكية أن تدرج اسمه على قائمتها للعقوبات. في هذا التقرير، نرید أن نتعرف أكثر علی هذا الفيلسوف والمنظر والسياسي الروسي المؤثر، ونظرياته السياسية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي الأيام الأخيرة من عام 2013 وفي خطابه السنوي، انتقد صراحةً سياسات الغرب الثقافية. انتقادات الرئيس الروسي من الغرب لم تکن غريبةً جداً، ولكن الأمر الذي ربما قد حدث لأول مرة، هو مهاجمة بوتين الأسس الفكرية للغرب بشکل جريء. قال بوتين في هذه الكلمة: “الغربيون یتعاملون مع الخير والشر بطريقة واحدة، ولا يميزون بين الاثنين”. وتابع الرئيس الروسي أنه ملتزمٌ ومؤمن بالدفاع عن “القيم العائلية التقليدية”، وهذه القيمة هي أساس “عظمة روسيا وحصن منيع أمام ما يسمى بالتسامح”.
وانتقد بوتين “إعادة النظر في المعايير الأخلاقية في العديد من البلدان،” وقال: “إن تدمير القيم الأخلاقية من المستويات العالية للبلد والحكومة والمسؤولين، ليس فقط يستتبع عواقب سلبية للمجتمع، بل إنه أساساً ممارسةٌ غير ديمقراطية، لأنه یخالف إرادة الأغلبية”. وأشار الرئيس الروسي بشکل واضح نسبياً إلى الموجات الثقافية، مثل إضفاء الشرعية على زواج المثليين في مختلف الدول الغربية، وهي السياسة التي اعتمدت روسيا عكسها تماماً رغم الانتقادات الغربية.
حديث رجل روسيا الأول عن الاختلافات الثقافية مع الغرب، لم یکن مجرد مسألة سطحية، بل كان یبشّر بنهج جديد، سوف تعتمده روسيا في مختلف المجالات بما في ذلك السياسية. وفقاً لهذا النهج الجديد، کان يجب علی بوتين أن یتعامل مع الغرب بشکل أكثر وضوحاً وشدةً. وما شهدناه من روسیا لاحقاً في سوريا وأوكرانيا والبرنامج النووي الإيراني، لعله یکون مفهوماً بشکل أكثر سهولةً، في إطار هذا النهج الجديد. ومن الآن فصاعداً، فإن بوتين ليس فقط لا يتهرب من المواجهة مع الغرب، بل یرحّب بذلك أیضاً.
ولكن السؤال الذي یفرض نفسه هنا، هو ما هي العوامل التي دفعت بوتين لتبني هذا النهج الجديد؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعرف مَنْ هم الأشخاص أو ما هي النظريات التي تترك الأثر الأكبر على بوتين. فأي شخص قام بدراسة حول بوتين وروسيا، یعلم أن أي بحث بهدف “معرفة بوتين” یجب أن یبدأ بـ”معرفة دوغين”.
ولد دوغين في عائلة عسكرية في يناير 1962. والده کان ضابطاً كبيراً في “الاستخبارات العسكرية السوفياتية”، وقد عمل دوغين بتوصیة من والده، في قسم وثائق “الكي جي بي”. ونتیجةً للاطلاع ودراسة وثائق لم یعلم بوجودها سوی قلة من الناس، استطاع البحث والتحقیق في الفاشية والأوراسية والأديان المختلفة، ویکوّن آراءً حولها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لعب الكسندر دوغين دوراً في إنشاء حزب واحد وشارك في نشر عدة منشورات وهكذا واصل نشاطاته السياسية. وكان واحداً من الذين ساهموا في كتابة النظام الأساسي للحزب الشيوعي في الاتحاد الروسي، الذي کان قد دبّت فيه روح جدیدة تحت قيادة السياسي الشيوعي غينادي زوغانوف. وكان نتاج هذا النظام الأساسي ذا لهجة قومية أکثر من الماركسية.
الأوراسية والنيو أوراسية
يری دوغين أن روسيا تنتمي إلى الشرق ثقافياً، ويجب أن تقف کزعيم في وجه العالم الأحادي القطب “الغربي – الأمريكي”. وكان قصده مما يسميه أوراسيا، روسيا الكبيرة التي لدیها حلفاء، بما في ذلك إيران، تركيا، الصين، الهند وبعض الدول في أوروبا الشرقية. يقول في تعريف الأوراسيا: “الأوراسية هي فلسفة سياسية مع ثلاثة مستويات خارجية ووسطى وداخلية. هذه النظرية علی المستوی الخارجي، تشتمل علی عالم متعدد الأقطاب، أي هناك أکثر من مركز دولي لصنع القرار، أحدها الأوراسيا. والقصد من الأوراسيا، هو روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق.
ویتابع الكسندر دوغين: “الأوراسية علی المستوى المتوسط، تقول بالتقاء دول الاتحاد السوفيتي، إلی جانب نموذج عابر للحدود أي تشكيل دول مستقلة. أما نظرية الأوراسية علی مستوى السياسة الداخلية، فهي تعني تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية، وعلی أساس أقسام من نموذج الليبرالية والقومية. هذه المستويات الثلاثة، هي فلسفة الأوراسية والتي یتشکّل علی أساسها نوع واحد من السياسة الخارجية فقط، وهي سياسة مستقلة عن العولمة، العالم الأحادي القطب، القومية، الإمبريالية والليبرالية. إذاً تعدّ الأوراسية بشكل عام نموذجاً فريداً للسياسة الخارجية.
النظرية السياسية الرابعة
دوغين وفي كتاب بعنوان “النظرية السياسية الرابعة”، حاول التنظیر لنظريته المتمثلة في النيو أوراسية. یقول في هذا الكتاب الذي نشر في روسيا عام 2009: “لقد انتهى القرن العشرون، ونحن الآن فقط بدأنا ندرك ذلك بشکل کامل. لقد كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات.”
وفي شرح لما یعنیه من النظرية الرابعة، یذکر أولاً ثلاث أيديولوجيات حیة وحاضرة في القرن العشرين: الفاشية والشيوعية والليبرالية. ثم یتابع دوغين: منذ هزیمة الفاشية والشيوعية وذهابهما في التاریخ، فإن الليبرالية تصول وتجول في الساحة دون منازع، بل حتى تتظاهر بأنها ليست أيديولوجية إلی جانب الأيديولوجيات الأخرى، بل هي واحدة من مكونات الحياة الإنسانية “الطبيعية”. وبحسب دوغين، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، تبيَّن أن مصير الإنسان و”نهاية التاريخ” لیس بالطريقة الماركسية، بل کان يبدو أنه بالشکل الليبرالي نفسه الذي کان الفيلسوف الأمريكي “فرانسيس فوكوياما” قد سارع إلی توعية الإنسانية منه، عبر الإعلان عن “نهاية التاريخ” والنصر المؤکد والدائم للسوق الحرة، الليبرالية، أمريكا والديمقراطية البرجوازية.
ویرید الكسندر دوغين في كتابه من خلال طرح نظرية رابعة، والتي هي “النيو أوراسية” نفسها، أن یضع هذه النظرية في مقابل الليبرالية التي تصول لوحدها الآن. كما يريد دوغين تقدیم السياسة الرابعة كبديل يشمل المنافسين السابقين لليبرالية والأطلانتس، وفي الواقع مزيج من التيارات غير الليبرالية، أولاً في روسيا ومن ثم في العالم.
موقع إيران في نظرية الأوراسية لالكسندر دوغين
یخصص “عقل بوتين” في نظريته الأوراسية، مكانةً هامةً لإيران. دوغين یری أن جمهورية إیران الإسلامية هي واحدة من أهم حلفاء روسيا في الحرب ضد العالم الأحادي القطب، والغربي – الأمريکي. ویقول حول دور إيران في نظريته: “من وجهة نظر العالم المتعدد الأقطاب، ففي نظرية الأوراسية، تلعب إيران دوراً رئيسياً. هذا البلد بعد الثورة ونظراً لموقعه الإستراتيجي، قد تم إدراجه في خلق الفضاء الأوراسي المستقل. وهناك تداخل إستراتيجي كامل بین المصالح الإيرانية والروسية في آسيا الوسطى، وفي المجال الإقليمي بصفة عامة.
وإذ يشير دوغين إلى الحضارة الخاصة والقوة والاستقلالية التي یراها لإيران، يوضح أن هذا البلد لا یقع ضمن “التقارب الأوراسي”، ولا ينبغي الافتراض بأنه جزءٌ من “روسيا الأكبر”. بل إيران هي الدولة التي “يجب أن تحترم. ويجب الحفاظ على هذه الوحدة. فإيران شريك روسيا في العالم المتعدد الأقطاب. وموقع إيران في النموذج الأوراسي المتعدد الأقطاب، موقعٌ محوري، وفي هذا النموذج، فإن طهران هي أقرب شريك لموسكو. ومع ذلك، فقد تم النظر في الشراكة مع تركيا والصين والهند أیضاً.”
ولمزید من الشرح لتصریحاته، یقول: “إيران بلد أوراسي، ومصيره يعتمد على التحالف مع روسيا وربما الصين. ولکي یصبح هذا التوجّه عملياً، علی طهران أن تتخذ مواقف منسّقة إلى حد كبير مع روسيا والصين، وأن تختار أوراسيا. وفي الوقت نفسه، فإن إيران هي دولة حرة ومستقلة، ولا يمكن لأحد أن یؤثر علیها”.
دوغين الذي سبق له أن زار إيران وأجری لقاءات وحوارات مع المفكرين والخبراء والسياسيين الإيرانيين، دعا مراراً لإقامة علاقات وثيقة مع الحكومة الإيرانية. وإذ يؤکد علی أهمية الصداقة مع إيران في نظرية النیو أوراسية، حول المحاولة لتخفيف حدة التوتر بين روسيا وإيران وعودة الاستقرار إلی آسيا والشرق الأوسط، يقول: “أنا أطالب بإقامة علاقات جيدة مع الحكومة الايرانية، وأؤيد العلاقة الوثيقة مع سفارة هذا البلد. ونحن سنفعل كل ما هو ممكن لأقصى قدر من الدعم للعلاقات الروسية – الإيرانية.”
وفيما يتعلق بالتعاون مع إيران في سوريا، يقول: “موسكو وفي سبیل سیاسة التعامل مع أي هجوم على إيران، تدعم سوريا أیضاً. موقف إيران وروسيا بشأن سوريا، متطابق تماماً، لأن الهجوم على سوريا، یعني الهجوم على المصالح الوطنية لكل من إيران وروسيا. والحكومة الإيرانية يجب أن تستخدم هذه الظروف من أجل تعزيز علاقاتها مع روسيا. ثم یتابع دوغين: ينبغي تحقيق التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين وتطویره. ويجب ألا ننسى الحرب الناعمة أیضاً. وأمريكا تُحسن استخدام هذه الأداة. شبابنا یستخدمون مواقعهم، مع أننا قمنا بأداء ضعيف في هذا المجال. إنتاج الأفلام، الكتب والترجمة والخ، هي المجالات التي یجب علی البلدين العمل فيها.
المصدر / الوقت