قلق الرأي العام السعودي تجاه حربي اليمن وسوريا يطفو على السطح
الانطباع السائد لدى الكثيرين في المنطقة العربية، وربما العالم بأسره، ان التصريحات “الاستفزازية” التي يطلقها السيد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، من حين الى آخر، او نظيره العسكري العميد ركن احمد عسيري، المتحدث باسم “عاصفة الحزم”، ووزراة الدفاع السعودية، تعكس رأيا عاما سعوديا مؤيدا للحروب والسياسات التي تخوضها، او تتبناها قيادته، ولكن ما يمكن رصده، سواء من خلال التقارير الاخبارية المنشورة في الصحف الاجنبية (الصحافة العربية في معظمها تتجنب الخوض في الشأن السعودي)، او من خلال اللقاءات والاتصالات المباشرة مع خبراء سعوديين واقليميين توحي بعكس ذلك.
لنبدأ بالتقرير الذي كتبه الصحافي الامريكي هيو تايلور، ونشره في صحيفة “واشنطن بوست” قبل بضعة ايام، واثار موجة من ردود الفعل داخل السعودية وخارجها لجرأته، وخوضه في بعض المحرمات، عندما تحدث عن “حالة من القلق” تسود اوساط الرأي العام السعودي من جراء حروب بلاده في المنطقة، سواء المباشرة، مثلما هو الحال في سورية واليمن، او غير مباشرة في لبنان والعراق وليبيا، وتأكيده، اي الكاتب الامريكي، انه في الوقت الذي تفرد فيه هذه القيادة عضلاتها العسكرية، يحقق خصومها تقدما على الارض في منطقة حلب.
الكاتب نفسه نقل عن مسؤول سعودي بارز، لم يذكر اسمه، قوله “هناك قلق جدي على المستويات كلها في المجتمع السعودي، وبينهم اعضاء في الاسرة الحاكمة، حول المشاركة في هذه الحروب في وقت تواجه البلاد صعوبات اقتصادية نتيجة تراجع اسعار النفط وعوائده”، وختم المسؤول كلامه بالقول “اعتقد ان هناك شعورا اننا فقدنا القدرة على النظرة الى الامور بواقعية”.
***
الاعلام الرسمي الخليجي الذي يهيمن على المنطقة بأذرعته القوية المتعددة، وامبراطورياته العملاقة، لا يعكس مثل هذا القلق، ولكن بعض الكتاب السعوديين “يلمحون” اليه بعدة طرق:
الاولى: الامتناع عن الكتابة بشكل عام اعتزالا، وتجنبا للخوض في هذه المواضيع الحساسة والصدام مع السلطات بالتالي، وتلقي عتابها في اضعف الايمان، فسيف الاعتقال سلط على رقابهم، والسجن عشر سنوات هو الحد الادنى لمن يخرج عن السرب.
الثانية: الكتابة في مواضيع عامة ليس لها علاقة بالتطورات السياسية والعسكرية الحالية، مثل العودة الى التاريخ، والحديث عن “الوهابية” وسوء فهم البعض لها، او تناول القضايا العالمية مثل الانتخابات الامريكية ايثارا للسلامة.
الثالثة: تناول الحروب السعودية في سوريا واليمن، ولكن دون اتخاذ مواقف مؤيدة او معارضة علنا، وترك الامر للقاريء لفهم ما بين السطور.
الكاتب السعودي جمال الخاشقجي ذو الميول الاسلامية، والمقرب من السلطات السعودية، ويعتبر من ابرز المؤيدين للتدخل العسكري في اليمن وسورية، وايد “عاصفة الحزم” في ساعاتها الاولى، اعترف بجرأة غير معهودة لدى الكثير من اقرانه، بأن هناك حالة من القلق فعلا في الاوساط السعودية، وقال “ان هذا المسؤول الكبير الذي تحدث لصحيفة “واشنطن بوست” الذي لا نعرفه، علينا ان نقر، وقبل ان نتهمه بالانهزامية، يمثل تيارا حقيقيا من السعوديين نلقاهم في مجالسنا، يتحدثون بصراحة، ويلقون بالاسئلة الصعبة يمينا وشمالا، والافضل ان نستمع اليهم”، ولكنه، اي السيد خاشقجي، لا يرى المشكلة في ما ذكره ذلك المسؤول من وقائع، وانما “في غياب خطاب تعبوي يلغي هذه الشكوك ويعزز الثقة فيما نحن فيه، وما نحن مقبلون عليه، فما دام هناك اقتناع بحتمية المواجهة (مع ايران)، فالوقت حان لكي تنتقل هذه القناعة الى كل مستويات المجتمع السعودي”.
هذا الجدل السعودي الذي نشاهد قمة جبل الجليد منه فقط حول حروب بلاده وسياساتها، “جدل صحي”، يعكس حراكا يريد ايصال رسائل عدة، سواء لصاحب القرار، او للرأي العام بشقيه السعودي والعربي، خاصة مع اكمال “عاصفة الحزم” في اليمن عامها الاول، ومعها العهد السعودي الجديد الذي بدأ مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، على عكس معظم التوقعات.
“عاصفة الحزم” استنزفت المملكة ماليا وعسكريا، ولا يلوح في الافق اي مؤشر على مدى انتصارها، رغم حشد عدد كبير من الطائرات الحديثة، والقوات العربية تحت مسمى التحالف العربي، وبهدف “توزيع الدم اليمني على عشر قبائل او حكومات عربية”، اما التدخل السعودي السياسي والعسكري غير المباشر (دعم المعارضة المسلحة)، او المباشر، (ارسال طائرات مقاتلة الى قاعدة انجيرليك التركية، وقوات خاصة الى الاردن استعدادا لدخول الاراضي السورية)، فلم يعط اي ثمار ملموسة حتى هذه اللحظة، وربما يعطي نتائج عكسية اذا ما تطورت الامور الى صدام مع روسيا، فالسعودية لا تقاتل الرئيس الاسد مثلما كان عليه الحال طوال السنوات الخمس الماضية، وفشلت في الاطاحة به ونظامه، وانما تقاتل الآن ضد روسيا، وايران، وحزب الله، وقطاع عريض من الاكراد، الامر الذي يزيد من حروبها تعقيدا.
لا نتفق مع الزميل خاشقجي في تشريحه للازمة، وتبني نظرية “غياب الخطاب التعبوي” الذي يمكن ان يبدد القلق الشعبي السعودي، لاننا نعتقد وبحكم متابعتنا لجوانب هذه الازمة، غياب الاقتناع بحتمية “المواجهة” في اوساط الاغلبية، ودعم “التورط”، ولا نقول “التدخل” العسكري في اليمن وسورية بالتالي، والصدام السياسي مع لبنان، والدعم المالي للسلطات المصرية، والعديد من الجوانب الاخرى للسياسة السعودية الآنية.
الخطاب العتبوي الناجح والمؤثر له مواصفات يجب ان تكتمل حتى يحقق الاقناع اولا، والتعبئة والتحشيد ثانيا، ومن ابرز هذه المواصفات هو شرط “الاقتناع″ حتى يتحقق “الاقناع″، ولا نعتقد ان معظم المسؤولين خلف هذا الخطاب مقتنعين به، حتى لو قالوا عكس ذلك، فاللافت، ومن خلال متابعة وسائط التواصل الاجتماعي، والتويتر و”الفيسبوك” يجد ان معظم “الدعاة النجوم” ليسوا مع الحرب في اليمن، ويرفضونها في سورية لانها ضد “داعش” و”جبهة النصرة”، او ظاهرة “الاسلام الجهادي”، وكل محاولات الجيش الالكتروني السعودي للتغطية في هذه الحقيقة باءت بالفشل.
***
المملكة العربية السعودية، حسب اعتقادنا، وقعت في مصيدة “التحريض” الامريكي والغربي ضد ايران، للابتعاد عن القضية الفلسطينية، والتقرب من اسرائيل باعتبارها المنقذ والحليف في التصدي لهذا “الخطر الشيعي الفارسي” الذي عملت الدعاية الامريكية، الرسمية والاعلامية، على تضخيمه على مدى السنوات العشر الماضية.
من المفارقة انه بعد ان اكتملت اعمال التحريض واعطت نتائجها في بيع منطقة الخليج ما قيمته 200 مليار دولار من الاسلحة، انسحبت امريكا من المواجهة مع ايران، وتركت السعودية وحدها في منتصف الطريق، وسدت في وجهها كل ابواب التراجع، اي تطبيقا للمثل العربي الذي يقول “رمتني بدائها وانسلت”.
ما قالته “الواشنطن بوست” وكاتبها هو ما قلناه وحذرنا منه في هذا المكان قبل عام، ولكن “بلبل الحي لا يطرب”، وان كنا لسنا بلابل، وعلاقتنا بالغناء والطرب مقطوعة في الاتجاهين.
عبد الباري عطوان
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق