سوريا بين الدخول الروسي العسكري وخطوة تقليص القوة : حقائق لا بد من ذكرها
جاءت الخطوة الروسية لتُعيد خلط الأوراق. فيما ذهب العديد من المحللين، للحديث عن أن الخطوة تعني بداية عهدٍ جديدٍ أمريكي روسيٍ مُنسق، يبدو أن روسيا تخطت فيه حلفاءها، وفي مقدمتهم سوريا “الأسد”. في حين تُشير الحقائق الى ما هو عكسٌ لذلك تماماً. فكيف يمكن الربط بين الخطوة الروسية الأولى بالدخول في المعترك السوري، وبين القرار الحالي بسحب بعض القوة؟ وماذا في بعض الحقائق السياسية والعسكرية حول ذلك؟
لماذا دخلت روسيا منذ أشهر؟
لا بد في البداية من الحديث عن أسباب الدخول الروسي منذ أشهر، لننتقل بعد ذلك لتأكيد بأن الخطوة الروسية الحالية لم تُخل بما كان مُخطط له. وهنا نُشير للتالي:
عندما تحدث الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بعد الدخول الروسي الى سوريا، أشار الى أن الدخول الروسي العسكري كان بطلب من الحكومة السورية ولم يكن تدخلاً عسكرياً. كما أكد على أن ذلك اقترن بمدة، حدّدها “بوتين” لأربعة أشهر ثم أعاد تمديدها إلى ستة.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن المساندة الروسية العسكرية كانت لأهدافٍ عديدة منها ما هو مُعلن ومنها ما هو خفي. لكنها لم تكن للبقاء طويل الأمد، في حين تبقى القواعد العسكرية ويبقى الوجود الروسي الإستراتيجي المرتبط بالتواجد في المياه الدافئة. وإن من أهم هذه الأهداف كان تأمين الدعم اللوجستي العسكري للجيش السوري، وتحديداً العمل على تأهيل القوات الجوية السورية، لتستطيع مساندة القوات البرّية، لمنع إسقاط الدولة بالقوة.
هدفٌ آخر سعت إليه روسيا من مساندتها للقوات السورية، وهو تأمين الإسناد العسكري العملي، عبر إسناد القوات التي تواجه القوات المسلحة على الأرض لضرب الإرهاب وتحديداً “داعش”، عبر نزع القدرة الهجومية له. فالجيش السوري قبل دخول الطرف الروسي، كان يعمل في مناطق محدَّدة حيث جرى شد الخناق عليه، في حين شكَّل الحضور الروسي قدرةً عسكرية فائضة، نقلت الجيش السوري من القدرة المحدودة في الهجوم الى القدرة الشاملة في التحرك على أكثر من جبهة. الأمر الذي جعل النظام السوري يُعيد السيطرة على المراكز الأساسية له.
الى جانب ما تقدَّم، فقد سعت روسيا أيضاً الى الإمساك بالفضاء السوري، عبر نشر منظومة “أس 300″، وتحديداً في وجه الطرف التركي. وهو الأمر الذ يساهم في دعم الهدفين الأول والثاني.
أهم الأهداف الروسية الخفية، كانت القضاء على العناصر التكفيرية التي تحمل الجنسية الروسية كي لا يعودوا إلى روسيا وهو ما يتعلق بأمنها القومي بشكلٍ مباشر.
ماذا بعد تقليص القوة؟
من خلال متابعة الإهداف، فإنها تحققت بشكلٍ شبه كامل، وهنا نُشير للتالي:
بشكلٍ عام فإن المدة المُتفق عليها لبقاء القوات الروسية بشكلها بعد الدخول الروسي، انتهت، وهو ما يُبرِّر سحب بعض القوة الجوية، وبقاء التواجد الروسي في قواعد عسكرية أخرى. كما يؤكد بأن كل ما يجري خاضعٌ للإتفاق بين الطرفين السوري والروسي.
بالنسبة للأهداف العسكرية، فقد استطاعت القوات الروسية، إعادة تأهيل القوات السورية، لا سيما الجوية، وهو ما يمكن أن يتبيَّن من سير المعارك اليوم. أما بالنسبة للمساندة العملية، فإن المعارك الأخيرة لا سيما في الشمال السوري، أعادت موازين القوة لصالح النظام السوري. وهو ما يعني بأن الهدف الثاني تحقق. فيما يجب التأكيد على أن قتال التنظيمات الإرهابية، ما يزال قائماً، وهو ما لم تشمله الهدنة في سوريا ولا القرار الروسي. بل إن الهدنة، جاءت نتيجة تغيُّر موازين القوى في الميدان لصالح النظام السوري.
أما فيما يخص إقفال الفضاء السوري، فإن المنظومات الروسية تحديداً (أس 300) ما تزال، وبالتالي فإن الوضع الدفاعي الجوي، ما يزال قائماً من الناحية العسكرية.
لماذا قامت روسيا بخطوتها؟
إن التطورات الميدانية، في سوريا، ولعبة المعادلات الإقليمية والدولية، أجبرت الجميع على الرضوخ للحلول السلمية، لا سيما بعد أن أصبح الميدان في قبضة طرف محور المقاومة والحليف الروسي. ولأن الطرف الأمريكي اقتنع بأنه لن يستطيع الإنتصار في الميدان، لا سيما بعد أن أكمل الدخول الروسي في المُعترك السوري، خطوات إيران وحزب الله، في دعم النظام السوري، الأمر الذي جعل الواقع مغايراً لما قبل دعم الحلفاء للنظام.
وهنا فإن روسيا بحاجة للحفاظ على ما حقَّقته من إنجازات في الميدان. فهي دخلت بعد أن هيأ الطرفين الإيراني وحزب الله الأرضية لها. وهنا من الطبيعي القول بأن روسيا لا تسعى حالياً لإستفزاز الطرف الأمريكي أكثر وإفساد ما حققته. فيما تجدر الإشارة الى أن الحاجة الدولية لموسكو باتت أكبر. وإلا فإنه ليس من عادات أمريكا أن تستمع لأحد حتى لروسيا. فموازين القوة في الميدان السوري، تؤكد بأنه لا يمكن لطرف أن يتغلب على الآخر، بشكل كامل. الأمر الذي دفع الطرف الروسي للتعاون مع الطرف الأمريكي، دون المساس بمصالح الحلفاء حتى الآن.
لذلك فإن إيمان الجميع بضرورة الحل السلمي، لا سيما الطرفين الروسي والإيراني، الى جانب قناعة واشنطن بالتوجه الى المحادثات، جعلت الطرف الروسي يأخذ مبادرة إفراغ فائض القوة من الميدان السوري، منعاً لأي محاولةٍ أمريكية على الإلتفاف في المفاوضات، أو الذهاب نحو ما عُرف بالخطة (ب). وبالتالي فإن عودة موسكو الى مركزٍ وسطيٍ دولي، هو الأفضل بالنسبة لسير المحادثات الدولية حول سوريا، الأمر الذي أعطاها موقعاً أقوى من الموقع الأمريكي.
هنا نستخلص أنه لم تكن الخطوة الروسية بعيدةً عن مجريات الأحداث الطبيعية في سوريا. بل إن ما جرى، قرَّرته موسكو و دمشق. في حين يجب القول بأن لعبة المصالح اليوم أصبحت أكبر وأخطر. فالطرف الأمريكي ليس أهلاً للثقة، وقد لا يعجبه وصول الطرف الروسي الى مرحلة القدرة على التحكم بقرارات السلم والحرب. فيما يبدو واضحاً، أن المنطقة تتجه نحو مستقبلٍ آخر. لنقول أنه ومنذ أن أصبحت إيران نووية، بدأت الكثير من المُتغيرات. وهنا يبقى المُستقبل رهن التطورات بين الحلفاء أنفسهم والأعداء أنفسهم من جهة، وبين الحلفاء والأعداء من جهةٍ أخرى. في عالمٍ يقول فيه التاريخ السياسي، بأن حليف سياسة اليوم، قد يكون خصم الغد.
المصدر / الوقت