الشعوب الأوروبية تعيش مرارة الإستقرار: هكذا أراد زعماؤها
جاءت تفجيرات بروكسل بعد أشهرٍ من تفجيرات باريس، لتُعيد الى أوروبا حالةً من الهلع والخوف انتابت القارة الأوروبية والعواصم العالمية. لكن الكلام الذي صدر بمجمله، تنوَّع بين إدانة التفجير الإرهابي، والتضامن الإنساني، دون الولوج في تحليل الحدث كنتيجةٍ لسياسات الدول الأوروبية. وهو الأمر الذي يجب القول بأنه يشكل الحقيقة خلف ما يجري في أوروبا اليوم، بعد أن كان نفسه سبباً فيما يجري في بلدان الشرق الأوسط وما يزال. فكيف يمكن الوقوف عند تفجيرات بروكسل؟ وماذا يجب أن نقول في ذلك؟
كلام يجب أن يُقال
لا شك أن الكلام التضامني هو كلامٌ طبيعيٌ، فالضحايا ليسوا إلا أبرياء، كما أجمع العالم بأسره، والذي استهدفهم هو ذات الإرهاب الذي كان استهدف الشعب السوري والمدن اللبنانية وغيرها من الدول في الشرق الأوسط. وهنا فإننا لن نخرج لنتحدث بلغةٍ تستحي أمامها المعايير الإنسانية، بل على الرغم من أن حكومات هذه الدول الأوروبية تُعتبر جزءاً من المؤامرة التي طالما حيكت وتُحاك ضد شعوبنا العربية والإسلامية، فإننا كشعوبٍ شرق أوسطية، نُعبِّر عن تضامننا الصادق والإنساني مع الشعوب الأوروبية كافة. لكن حقائق الأمور يجب أن تقال، وهي موجهةٌ لحكومات هذه الدول. وفي هذا المجال نقول التالي:
إن هذه التفجيرات جاءت بعد أشهرٍ من تفجيرات باريس، وبعد أربعة أيام من اعتقال الإرهابي صلاح عبد السلام، أحد أبرز العقول المخططة لتلك التفجيرات، والتي أشار الإعلام الغربي الى أن اعتقاله جاء بالصدفة، وبعد مكالمة هاتفية مع أحد أصدقائه في بلجيكا. وهو ما قد يؤكد بالتحليل، بأن المسؤول عن هذه التفجيرات هي التنظيمات الإرهابية وتحديداً داعش، والتي يبدو أنها باتت تعيش في واقعٍ أوروبيٍ قويٍ يحتضنها، لا يجب الإستخفاف به.
وهنا فإن ذلك يعني بأن سنة ونصف كانت كافية للتنظيمٍ الإرهابي، للنجاح في التمدد في الخارج لا سيما في أوروبا. حيث توجد الكثير من الثغرات الإجتماعية والسياسية والدينية التي قد تكون منفذ هذه التنظيمات لعقول الكثير من الشباب الذي لا يعرف عن الإسلام الكثير، والذي قد يجد في هذه الأطراف منفساً له. وهنا فإن نجاح هذا التنظيم في التمدد، يعني بأن محاربته عبر التحالف الأمريكي والذي كانت أوروبا جزءاً كبيراً منه، لم ينجح، تحديداً في ليبيا اليوم، وفي سوريا والعراق قبل ذلك.
لذلك فقد يكون هذا التفجير رداً على اعتقال عبد السلام منذ أيام، إذ تعتقد السلطات الأمنية حتى الآن، بأن ما يُعرف بخلية “مولينبيك” هي التي تقف وراء التفجيرات، الأمر الذي له الكثير من الدلالات، والتي سنشير اليها لاحقاً.
كيف تتحمل السياسة الأوروبية المسؤولية؟
عددٌ من الأخطاء الكثيرة للدول الأوروبية يمكن أن تكون السبب فيما يجري على الشعوب الأوروبية اليوم، نكتفي بسرد بعضٍ منها:
بدأ الخطأ الكبير والذي وقعت فيه الحكومات الغربية (وهنا نتحدث عن التاريخ الحديث جداً أي منذ الأزمة السورية)، حين سمحت بتصدير الإرهاب الى منطقة الشرق الأوسط. فقد أسهمت سياسات الدول الأوروبية بتعقيد الأوضاع السياسية والأمنية في دول الشرق الأوسط، منذ غزو العراق إلى سياستها التآمرية في الحرب على سوريا، مروراً بالتدخل الخاطئ والمكلف في ليبيا. وهو الأمر الذي يبدو أن أوروبا لم تفهم أنه سيكون مُكلفاً بشكلٍ كبير. فالإنخراط في ساحات الآخرين، لا يمر دون ثمن.
ولعل أبرز ما يجب الوقوف عنده، هو الخطأ الأوروبي، ليس فقط في التدخل، بل في السماح لما يُسمى بالعناصر الراديكالية الراغبة في الإلتحاق بالصراع الدائر في منطقتنا، بالمغادرة وبصورة طبيعية، تحت حجة عدم التمكن قانونياً من منعهم، مع رهان البعض على عدم عودتهم أو المخاطرة في إمكانية التعامل مع ردات فعلهم.
وهنا فإن قيام الدول الأوروبية بالإنصياع للسياسات الأمريكية، لا سيما التنفيذية، دفعها ليس فقط الى تأمين الإرهابيين، بل الى المشاركة في حربٍ كانت في الحقيقة حرب نفاقٍ، سُمِّيت بالحرب على داعش، أو التحالف لقتال داعش. فيما ساهم هذا النفاق واستغلال الإرهاب، في تمدد الإرهاب بشكلٍ أكبر، حتى حصل التدخل الروسي في سوريا، وبدأت تتغير المعادلات الميدانية، وهو الأمر الذي جعل هذه المنظمات تبحث عن بديل لتحقيق نجاحاتها وتأمين استمرارية مشروعها.
يضاف الى كل ما تقدم، بأن سياسة الدول الأوروبية في المشاركة في تغيير الأنظمة العربية بالقوة، خدمةً لمشروع أمريكا في حماية الكيان الإسرائيلي، جعلها تدخل في صراع الأحقاد السياسية والدينية، دون تقديمها نموذجاً أفضل. وهو الأمر الذي جعل هدف المنظمات أو الجماعات الإرهابية، ينتقل من الشرق الأوسط الى أوروبا، بعد أن أصبحت الصراعات الأيديولوجية جزءاً من الصراعات المحتدمة.
ولعل أحد أهم الأخطاء القريبة المدى، هو أن الدول الغربية لم تراجع حساباتها أو سياساتها لا سيما بعد تفجيرات باريس. بل إن هذه الدول ما تزال تمضي قُدماً في كل ما يخدم السياسات الأمريكية، ويُجهض مساعي السلام والتعايش، الأمر الذي يجعل من التفجيرات نتيجةً لذلك أيضاً.
لطالما كانت القارة الأوروبية، المكان الذي يتمتع بحالة استقرار كبير منذ ستة عقود، وهي التي يبدو أنها انتهت في ظل ما يجري اليوم. فالسياسات الأوروبية الفاشلة تجاه الدول الأخرى، الى جانب التهميش الإجتماعي والسياسي والمعنوي لبعض الفئات الإجتماعية داخل أوروبا والذي يجعلها هدف التجنيد في مشاريع الإرهاب، كلها أمورٌ توحي بأنه أصبح من الوهم الحديث عن أوروبا مُستقرة. فيما تدفع الشعوب الأوروبية، ثمن سياسات زعمائها وارتهانهم للسياسات الأمريكية. لنقول بأن ما تعيشه الشعوب الأوروبية اليوم من مرارة الإستقرار، هو نتيجةٌ لما أراده زعماؤها.
المصدر / الوقت