قصة الخلاف بين انقرة وواشنطن . تمرد تركي وجشعٍ امريكي
انطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، من تصور إستراتيجي مفاده إمكانية الإستفادة من الدور الجيوإستراتيجي لتركيا، في مواجهة ما كان يُعرف حينها بالخطر القادم من الإتحاد السوفيتي. وهو دور لم تُنه أمريكا الرهان عليه مع انهيار الأخير، خصوصاً للموقع الجيوسياسي المهم الذي تحظى به أنقرة. لكن هذه العلاقة المُتنامية والتي مرَّت بمراحل من الفتور، خصوصاً عندما رفضت أنقرة عام 2003 جعل أراضيها بوابةً للغزو الأمريكي للعراق، يبدو أنها تعاني اليوم من أزمةٍ لا يُستهان بها، تتعدى الخلاف في وجهات النظر، وتصل الى مرحلة التناقض الواضح في المصالح. وهو الأمر الذي ينطبق على أزمة التعاطي مع ملف الأكراد، والإختلاف بين واشنطن وأنقرة في مقاربة الموضوع. فماذا في العلاقة الأمريكية التركية المتوترة؟ ولماذا تعيش مستقبلاً غامضاً؟
تركيا وأمريكا وأبرز القضايا الخلافية
يمكن وبإختصار تحديد نقاط الخلاف بين الطرفين كما يلي:
من خلال النظر لنتائج الأزمة السورية، يمكن الإستنتاج بأن أهم الأطراف المُستفيدة من الأزمة، كان حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي، والذي نجح بفضل الدعم الأمريكي والروسي له، في تحقيق نجاحات ميدانية ضد تنظيم داعش في مناطق شمال سوريا وشرقها. الأمر الذي ساهم في الإيحاء بإمكانية قيام دولة كردية على الأرض تمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية السورية وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط على الحدود السورية التركية، وهو ما لا يُخفيه الحزب. وهنا فإن هذا التنامي للطرف الكردي، هو ما تجد فيه أنقرة خطراً على مصالحها، وتهديداً إستراتيجيا لأمنها، لأنه سيؤثر على المطالب الكردية في الداخل التركي بعد أن أعلن الأكراد في تركيا تطلعهم لإقامة حكم ذاتي.
من هذا المنطلق وجدت أنقرة، بأن الموقف الأمريكي الداعم للأكراد، يُشكل خطراً على تركيا، خصوصاً أن سياسة واشنطن في هذا المجال الداعمة للأكراد، والرافضة تصنيفهم ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، أمرٌ يُشكل خطراً كبيراً على مصالح تركيا وأمنها القومي. خصوصاً أن واشنطن جعلت منهم حليفاً لها، في محاربة تنظيم داعش.
ولعل الخلاف الأمريكي التركي والذي ظهر في مقاربة الأزمة السورية، يُعتبر المنطلق للخلاف حول قضية الأكراد. فواشنطن والتي تتعاطى ضمن براغماتيتها السياسية المعهودة، تحاول التعاطي مع نتائج الأزمات وليس السعي للتغيير في واقع الأزمة، طالما أن ذلك لا يؤثر على مصالحها. إذ ليس خافيا أن الرئيس التركي أردوغان، بنى السياسة التركية تجاه الأزمة السورية بالرهان على إسقاط نظام الرئيس الأسد وهو الأمر الذي لم يعد موجوداً في الأجندة الأمريكية، بعد أن أنتجت الأزمة واقعاً جديداً أفضى بواشنطن للتفاهم مع الطرف الروسي والرضا بدور الطرف الإيراني.
وهنا فإن الإستغلال الأمريكي للدور الروسي، بدا جلياً، خصوصاً مع تبني واشنطن لسياسة إسقاط الأسد في العلن، الى جانب أن تركيا، وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الطرف الروسي لا سيما بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية. وهو الأمر الذي وبحسب المصلحة التركية، زاد من شكوك أنقرة تجاه الطرف الأمريكي، الذي لم يتوان عن المسارعة في الإتفاق مع روسيا، طالما اقتضت مصالحه ذلك.
بناءاً لما تقدم، كيف يمكن تحليل هذه الخلافات؟ وما هو المتوقع في العلاقة الأمريكية التركية؟
تحليلٌ ودلالات
كثيرةٌ هي التحليلات في هذا المجال. فالجميع يعترف بأهمية الموقع الجيواستراتيجي السياسي لتركيا، الأمر الذي يدفع للتسليم بأن العلاقة الأمريكية بأنقرة مهما بلغت أزمتها، فإنها لن تتخطى حاجة واشنطن لأنقرة في المنطقة، خصوصاً لجغرافيتها التي تطل على سوريا والعراق وإيران. لكن عدداً من الأمور يمكن تبيانها في هذا التحليل:
برزت قضية الحريات في تركيا، كملفٍ خلافيٍ جديد بين البلدين، خصوصاً بعد أن بدأ الإعلام الأميركي خصوصاً والغربي عموماً يُروِّج لحملة ضد أردوغان شخصياً عبر إظهاره دكتاتوراً قامعاً للحريات وللرأي الآخر، ومعيقاً للعملية الديمقراطية في البلاد. وهو ما قامت به أدوات الربيع العربي الأمريكية لإسقاط الأنظمة عبر الترويج لنفس الحملة ضد الحكام العرب. ولعل حديث المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايكل روبين عن أن حصول انقلاب عسكري ضد أردوغان لن يؤدي إلى ذرف الدموع عليه في الغرب، بحسب ما نشرت بعض الصحف الأميركية مؤخراً، يجب النظر اليه بعناية، إذ أنه يُعبِّر عن ما يجري في الدوائر السرية والمغلقة في واشنطن.
وهنا فلا بد من العودة الى ما ذكرناه لنقول، بأن واشنطن لم تكن حريصة يوماً على القضية الكردية كقضية شعب حُرم من حقوقه التاريخية، لتدعمها، بل هي تسعى لجعلهم ورقةً تستغلها في تحقيق مصالحها. واليوم، فإن واشنطن أيضاً، ليست حريصة على الحريات الصحافية والديمقراطية. في الواقع، يمكن الإستنتاج بأن البعد الإستراتيجي للعلاقة الأميركية التركية، محكوم بالدور الوظيفي لتركيا وحدود دور الحليف التركي.
وهنا فإن مشكلة الحليف التركي هو أنه بدأ يخرج عن الدور الوظيفي له والذي حدَّدته السياسة الأمريكية، محاولاً القيام بدورٍ مُستقل، يتوافق مع طموحات أردوغان وتطلعاته الكبيرة، والتي لا تخرج عن سوء التقدير للمصالح الأمريكية الكبرى، والسعي لتحقيق مكاسب خاصة، الأمر الذي يستوجب بحسب البعض، ضغطاً عليه للتجاوب في القضايا الخلافية وفي مقدمتها العلاقات مع الكيان الإسرائيلي.
إذن يمكن الإستنتاج وبشكلٍ واضح، أن الطابع العام للخلاف الأميركي التركي هو بسبب تناقض المصالح، الأمر الذي جعل واشنطن تُحدد أولوياتها، والتي ليس من الضروري وجود الطرف التركي فيها ولو ظرفياً. في حين تجدر الإشارة الى أن المرحلة السياسية الأمريكية اليوم، تُعتبر مرحلة انتقالية. مما يجعلنا ننتظر مرحلة ما بعد أوباما، والتي لن تأتي بجديد، بحسب ما يقول الخبراء، فيما يخص العلاقة مع تركيا. بل إن المصالح الامريكية الكبرى ثابتة، وأياً كانت الإدارة الجديدة، فهي ستتعاطى مع أنقرة بحدود دورها الوظيفي. فيما يمكننا القول أن سبب التوتر الحاصل اليوم، هو تمرُّد الطرف التركي على دوره المُحدَّد له، وجشع الطرف الأمريكي بالسعي لمصالحه الخاصة.
المصدر / الوقت