العلاقات السعودية العراقية ومستقبلها في ظل التغيرات الإقليمية
شكلت العلاقات السعودية العراقية مادةً للبحث على مر عقودٍ من الزمن، وخاصة أن البلدين يعتبران أكبر بلدين في المشرق العربي ويجمعها جوار جغرافي لم يستطع أن يتغلب على الخلاف السياسي والإيديولوجي الذي طغى على الروابط بين بغداد والرياض، ولا يمكن إنكار أن العلاقات بين الطرفين شهدت على مر العقود بعد المواقف التي تقاربت فيها السعودية من العراق إلا أن هذا التقارب كان مؤقتًا ومرحليًا ولم يستطع التغلب على الخلافات التي شكلت لب العلاقات العراقية-السعودية.
لمحة تاريخية عن العلاقات بين الطرفين
منذ بدايات تأسيس آل سعود لدولتهم عام 1904م كانت العلاقات التي تربط حكام السعودية بالعراق متوترة بشكل كبير وذلك لأن آل سعود شكلوا دولتهم على حساب الدولة التي كانت تحت سلطة “الشريف حسين بن علي” والد الملك فيصل الأول ملك العراق ومن ثم استلم إدارتها الملك علي شقيق الملك فيصل الذي نفاه السعوديون إلى العراق، أي يمكن القول أن التوتر بين السعودية والعراق ولد منذ ولادة الدولة السعودية التي حكمها آل سعود.
شهدت العلاقات بين الطرفين تحسنًا نسبيًا في بعض المفاصل التاريخية، ولكن هذا التحسن لم يرتقِ لمستوى إنشاء علاقات استراتيجية تربط كلا الطرفين، فمثلا خلال اجتياح صدام حسين للأراضي الإيرانية وقفت السعودية في صف العراق وقدمت له الدعم رغم أنها رسميًا نأت بنفسها، فقد قدمت لصدام حسين قروض وهبات كبيرة لمنع الاقتصاد العراقي من الانكسار ولجعل “صدام حسين” قادرًا على متابعة الحرب، كما قامت الرياض ببيع النفط السعودي لصالح العراق وأقامت خط لتصدير النفط من حقول البصرة إلى ميناء ينبع السعودي على البحر الأحمر، ناهيك عن وقوف وسائل الإعلام السعودية إلى جانب العراق، هذا التقارب في تلك المرحلة كان مؤقتًا ولم يثمر بإنشاء روابط حقيقية دائمة بين البلدين، فقد تم استبعاد العراق من مجلس التعاون الذي أسس في شباط ۱۹۸۱، رغم أن العراق شارك في العديد من المؤسسات الخليجية مثل وكالة أنباء الخليج وجامعة الخليج وغير ذلك، كما أن أزمة الكويت التي بدأت عام 1990 أعدمت كل فرص تقوية العلاقات بين العراق والسعودية.
العلاقات السعودية العراقية في ظل الاحتلال الأمريكي:
كانت السعودية تعاني من اضطراب في الموقف السياسي إزاء العدوان الأمريكي على العراق، فصناع القرار في الرياض كانوا يخشون من الرأي العام العربي والإسلامي في حال السماح لأمريكا باستخدام الأراضي السعودية لغزو العراق وتأييد هذا الغزو علنا، هذا من جهة أما من جهة أخرى فقد كانت الرياض قلقة من أن تُخدش علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن فتكون قد خسرت أهم حليف لها. (وقد ظهرت العلاقة بين السعودية وأمريكا للعلن عندما استعانت السعودية بواشنطن لمواجهة غزو “صدام حسين” للعراق عام وقد 1990، وعندها لبت واشنطن الطلب السعودي، كما أن أمريكا والسعودية اتفقتا على إبقاء قسم من القوات الأمريكية في السعودية وإنشاء قواعد للجيش الأمريكي بذريعة مواجهة الخطر العراقي).
استطاعت السعودية إقناع واشنطن بجعل قطر نقطة الانطلاق لغزو العراق تجنبًا لإثارة الرأي العام الاسلامي والعربي مع المحافظة على الدعم السعودي المالي واللوجستي للقوات الأمريكية، وقد قدمت الرياض لأمريكا وقتها الكثير من المساعدة والإمداد المالي وذلك لأن السعودية كانت تسعى للحفاظ على علاقتها الوطيدة مع الأمريكيين، فكانت السعودية تخشى أن يفضي غزو العراق إلى قيام نظام موالٍ للغرب يجعل أمريكا تستغني عن خدمات السعودية، وخاصة أن واشنطن بدأت الحديث عن نشر الديمقراطية في المنطقة الأمر الذي زاد من مخاوف السعودية، وفي حال لم لم يكن النظام العراقي الجديد موالٍ للغرب فسيكون في الخندق الإيراني-السوري، وفي كلا الحالتين رأت السعودية أن طريق خلاصها يتمثل في تقوية علاقاتها مع واشنطن وتقديم أكبر دعم للأمريكيين حتى تنال السعودية الثقة الأمريكية.
لم تجري رياح التغيير في العراق وفق الهوى السعودي، فقد وصلت حكومة عراقية مستقلة إلى القيادة بعد انتخابات 2005، وكانت هذه الحكومة غير منقادة للرياض ولا لواشنطن، الأمر الذي كانت تعتبره السعودية نتاج تراخي واشنطن وعدم مبالاتها، ولهذا قررت الرياض الدخول مباشرةً إلى الساحة السياسية بعد أن كان دورها يقتصر على المراقبة ودعم الأمريكيين، وأول ما قامت به السعودية هو الضغط على الحكومة العراقية وإظهارها بمظهر غير شرعي في محاولة لإيصال القوى المؤيدة للسعودية إلى سدة الحكم في العراق، ولذلك امتنعت الرياض عام 2007 عن استقبال رئيس الوزراء العراقي “نوري المالكي” كنوع من إظهار عدم الرضى تجاه السياسات العراقية، وبالتحديد سياسات الحكومة التي كانت تعبرها السعودية طائفية.
لم يكن أمام السعودية سوى خيارين، الأول أن تفتح سفارتها وتظهر حسن النية في تعاملها مع العراق مع العمل بشكل غير علني لتغيير حكومة العراق المنتخبة وإيصال أفراد يعملون لصالح الرياض، والخيار الثاني أن تظهر عدائها للحكومة العراقية بشكل علني وهذا الخيار لم ترجحه السعودية كونه يمكن أن يتسبب بخسارة العراق نهائيًا، وعدم قدرة السعودية على التأثير على الداخل العراقي، ولهذا سارعت السعودية وبعض الدول الأخرى إلى فتح السفارة عام 2008، واللافت أن السعودية لم تكن حرة في اتخاذ هذا القرار بل كان للإدارة الأمريكية دور كبير في هذا الموضوع، فالسعودية ومنذ 2003 قررت ملاصقة المنافع الأمريكية والعمل عليها سواء في العراق أو في غيره وذلك لكسب الدعم الأمريكي.
حاولت السعودية التأثير على الوضع الداخلي العراقي ونشر الفوضى فيه تقويضًا لحكومة “المالكي” وإضعافًا لنفوذها ولإظهارها على أنها ضعيفة وغير قادرة على لم شمل العراقيين، وذلك من خلال دعم بعض الجماعات المسلحة في العراق بالتوازي مع تشكيل تيارات من بعض أهل السنة تكون موالية للسعودية ورافضة لحكومة “المالكي”، وذلك حتى تضطر الحكومة العراقية إلى إشراك هذه التيارات بالقرار السياسي.
التدخل السعودي في الشؤون العراقية بعد الغزو الأمريكي للعراق ومحاولات الرياض الحثيثة لإخضاع العراق إلى سلطتها أو على الأقل تطعيم السياسة العراقية بالنكهة السعودية تسبب بتأجيج التوتر بين السعودية والعراق حكومته وشعبه، واعتبرت بغداد أن السعودية تدخل في الشأن الداخل العراقي وهي السبب وراء الفوضى التي يعيشها العراق.
بعد الاحتلال الأمريكي
كانت السعودية تعارض خروج القوات الأمريكية من العراق قبل تشكيل حكومة موالية للسعودية في بغداد، إلا أن واشنطن لم تستطع تحمل الخسائر العسكرية التي بدأت تتكبدها قواتها والتي ارتفعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة قبل توقيع اتفاق الانسحاب، فحسب إحصائيات البنتاغون قتل أكثر من 66 عسكري في أخر 16 شهر من تواجد القوات الأمريكية في العراق رغم أن عدد القوات الأمريكية كان قد انخفض كثيرًا في تلك الفترة نتيجة سحب أجزاء كبيرة منه.
بعد أن أدركت الرياض أن خيار انسحاب القوات الأمريكية من العراق بات أمرًا لا مفر منه، اتجهت السعودية إلى سياسة نشر العنف وعدم الاستقرار في العراق وذلك لجعل حكومته ضعيفة وغير قادرة أصلا على الوقوف في صف محور المقاومة المتمثل بطهران-دمشق، لذلك قامت السعودية بإثارة التظاهرات التي اجتاحت العراق عام 2011، كما استطاعت من خلال نفوذها الديني أن تعرقل حصول أي تسوية بين المتظاهرين والحكومة العراقية.
كسبت السعودية القليل من الوقت خلال المظاهرات لتجهز مع حليفتها واشنطن تنظيم داعش الإرهابي لاجتياح العرق، ولكن سرعان اقتحام داعش للأراضي العراقية شكلت المرجعية الدينية في النجف الحشد الشعبي لمواجهة خطر التنظيم الإرهابي، ومع بدء الحشد محاربة داعش واستعادة الأراضي من سيطرتها شرَعت السعودية بتوجيه التهم للحشد بأنه طائفي وغير شرعي محاولةً النيل منه والضغط عليه بهدف إنقاذ داعش، أو بمعنى آخر لحماية الفوضى في العراق.
رغم فشل الرياض في تبديل السياسة العراقية وكسب بغداد إلى صفها إلا أنها لم تتوقف عن التدخل في الشأن الداخلي وعن محاولات نشر الفوضى في العرراق، وهذا ما جعل التوتر حاكمًا على العلاقات السعودية-العراقية طيلة الفترة الماضية والراهنة، فالعراقيون كغيرهم من الشعوب يرفضون أي شكل من أشكال التدخل، كما أنهم يرفضون أي نوع من الإملاءات السياسية التي تعتمدها السعودية مع من هم في خندقها، فالرياض تعتبر نفسها المحور العربي وهي تعمل من خلال مالها ونفطها على شراء القرار العربي، الأمر الذي رُفض من قبل حكومة العراق والشعب العراقي.
إن مستقبل العلاقات بين السعودية والعراق يعتمد كليًا على نظرة السعودية إلى العراق، وإذا بقيت السعودية تحاول جعل العراق كسائر الدول الخاضعة للنفوذ والمال السعودي فمن الطبيعي أن العلاقات بين الطرفين ستتجه نحو مزيدٍ من التوتر والقطيعة، وفي المقابل إذا حسنت السعودية من سياستها تجاه العراق وسائر الدول العربية المخالفة لها بالنهج فإن هذا يمكن أن يرسم ملامح علاقات أفضل بين الرياض وبغداد، ورغم أنه يمكن الجزم أن السياسات السعودية غير قابلة للتغيّر في الوقت الراهن على الأقل، إلا أن فرض المحال ليس بمحال.
المصدر / الوقت