هكذا تمردت بريطانيا على جنينها الصهيوني …
أن تخرج أصواتٌ مناهضة للكيان الإسرائيلي في الغرب وتحديداً في بريطانيا، هو من الأمور التي يجب الوقوف عندها. فقد تعودنا أن ينحصر ذلك في العالم العربي. لكن يبدو أن السخط من أفعال تل أبيب، وحالة الوعي الجماعي تجاه القضية الفلسطينية، بدأت تأخذ طريقها في بريطانيا، ولو أنها ما تزال تتصف بالبلبلة والغموض. في حين يجب القول بأن مجرد حدوث هذا الأمر، يُعتبر نكسةً للصهيونية، وانتصاراً للقضية الفلسطينية في عالميتها، ولو بطريقةٍ غير مباشرة. فكيف يمكن تبيان ذلك؟
48 ساعة عاشتها بريطانيا، كانت كافية للزج بأكبر حزبٍ معارض لحكومة المحافظ ديفيد كاميرون في عاصفة اعلامية عنيفة واتهاماتٍ لعدد من شخصيات الجناح اليساري للحزب بمعاداة السامية. وهو الأمر الذي نتج عنه وبعد ضغوطٍ كبيرة، تعليق الحزب لعضوية النائبة “ناز شاه”، لأنها وضعت على حسابها على الفيسبوك عام 2014 صورة تُظهر الكيان الإسرائيلي داخل خارطة الولايات المتحدة، كتبت تعليقاً تحتها يقول: “حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: انقلوا اسرائيل الى الولايات المتحدة (…) تُحلُّ المشكلة”. وهنا فإن تفاعلات ذلك، جعلت رئيس بلدية لندن “كين ليفينغستون” يتولى مهمة الدفاع عن ناز شاه، مصرحاً بأنه عندما فاز هتلر في انتخابات 1932 كانت سياسته تعتمد على نقل اليهود الى الكيان الإسرائيلي، لكنه انتهى بقتل ستة ملايين يهودي. هذه التصريحات، أحدثت بلبلةً كبيرة، أدت لإتهامه من قِبَل البعض بأنه يمدح النازية ويُعادي السامية. الأمر الذي دفع الحزب لتعليق عضوية ليفينغستون.
وهنا لا بد من الوقوف عند بعض النقاط:
في وقتٍ اعتبرت فيه بعض الصحف البريطانية، بأن ما يجري يضُرُّ ببريطانيا، فقد خرجت بعض الصحف كـ “ديلي ميل” اليسارية، لتصف بأن حزب العمال في بريطانيا يعيش حرباً أهلية. فيما اختارت صحيفة “تليغراف” اليمينية رسماً لوردة تُشكِّل جذورها تحت الأرض كلمة “لا سامية”. وهو الأمر الذي يمكن من خلاله ملاحظة وجود شرخ بريطاني، ولو أن البعض حاول حصره بحزب العمال لأسبابٍ سياسية. وهنا فإن التسليم بأن المشكلة تنحصر بالحزب المعارض فقط، أيضاً يوصلنا، لقناعة أن الحالة السياسية التي يعيشها الواقع البريطاني تُعتبر جديدة، بحيث أنها تخطت الداخل أي الصالونات السياسية المُغلقة، وخرجت الى بريطانيا والعالم. فيما يبرز تأكيد زعيم الحزب “جيريمي كوربن” بأن حزبه لا يواجه أزمة، بل يواجه معارضة من قبل عدد من كوادر الحزب. مما يعني عدم الإكتراث الكبير بحجم المعارضة.
ولعل مسألة الإنتخابات المحلية، جعلت النقاش يحتدم، الأمر الذي جاءت نتائجه عكسية. ففي وقتٍ لم يُفوِّت المحافظون فرصةً لتعميق الأزمة قبل أيامٍ من الإنتخابات والتي ستشمل اعضاء برلمانات اسكتلندا و ويلز وايرلندا الشمالية، بالإضافة الى منصب رئيس بلدية لندن، أشار ديفيد كاميرون الى أنه لدى حزب العمال مشكلة مع معاداة السامية. مما جعل الرجل الثاني في قيادة الحزب “تومي واتسون”، يؤكد عبر شبكة “بي بي سي”، بأن الهدف هو إظهار عدم التسامح مع معاداة السامية. وهو ما يُؤكد بأن الأمور خرجت الى العلن. بل أضحت مسألة معاداة السامية والنظرة للكيان الإسرائيلي، محط نقاشٍ وتنافس. مما يُزعزع السمعة التي طالما سعت تل أبيب لصيانتها لدى الغرب. بل يجعل منها موضع نقاشٍ، يبدو أنه يستفز التيار الصهيوني أو الماسوني الذي بدأ يواجه هذه المُعضلة الجديدة.
وفي نفس السياق، برز ما اعتبرته هيئة النواب البريطانيين اليهود، وهي اكبر منظمة لليهود في بريطانيا، بأن تصريحات “كين ليفينغستون” رئيس بلدية لندن شائنة وغير مشرفة. وهو ما جاء كحملةٍ من التيار الماسوني الذي تنتمي له هذه المنظنة، والتي لم تعهد هكذا تحركات. فيما لم يسلم رئيس الحزب جيريمي كوربن من الحملة، حيث صرح رئيس الهيئة جوناثين اركوش، بأنه يجب على “كوربين” الإعتراف بأن لقاءاته السابقة مع معادين للسامية قبل أن يصبح رئيسا للحزب لم تكن لائقة، وهو في إشارة للقاءات التي عقدها “كوربین” مع اعضاء في حزب الله وحركة حماس خلال مؤتمر في لبنان حول عملية السلام في الشرق الاوسط.
بناءاً لما تقدم، يمكننا الخروج بإستنتاجاتٍ عديدة نذكر منها التالي:
لا يمكن التغاضي عما حصل في بريطانيا، لأسبابٍ تتجاوز الحدث. فالرمزية التي تتمتع بها بريطانيا، تجعل من النكسة التي مُنيت بها الصهيونية، نكسة مُضاعفة. فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى توافرت الأجواء الدولية الملائمة لتنفيذ الفكر الصهيوني، وذلك بإنشاء وتحقيق وطن قومي لهم. في ذلك الحين، بدت بريطانيا الإمبراطورية الوحيدة القادرة على تنفيذ هذا الإلتزام لعدة أسباب أهمها أنها الدولة الأوروبية الأكثر ظهوراً استعمارياً، وأظهرت توجهاً نحو المنطقة العربية منذ وقت مبكر، وهو ما أهلها لأن تكون الحاضن لجنين الفكر الصهيوني لينمو، في رحم الدولة البريطانية منذ عام 1905 و ليأتي بعد ذلك وعد بلفور عام 1917، و يزداد الرابط الوثيق بين الطرفين، والتاريخ يشهد.
وهنا فإن ما تقدمنا في طرحه، يذكره التاريخ بالفتصيل. فيما يجب القول بأن الواقع الحالي وإن كان مرحلياً كما يُشير البعض، يؤسِّس لمستقبلٍ سيطرح فيه الشعب البريطاني الكثير من التساؤلات. خصوصاً تلك التساؤلات التي تدل على حلف المصالح الإستراتيجي بين كل من لندن وتل أبيب. والذي سعت له تل أبيب لتثبيت وجودها في فلسطين، فيما هدفت بريطانيا لتأمين مصالحها السياسية والإقتصادية في الشرق الأوسط. لذلك فإن بريطانيا التي كانت السبَّاقة في احتضان المشروع الصهيوني، تعيش اليوم حالةً من التمرُّد عليه. يقودها سياسيون يمتلكون خلفيةً فكرية، تختلف عن خلفية الطاقم الذي حكم بريطانيا لسنوات.
لكن الأبرز في المشهد، هو أننا اعتدنا خروج أصواتٍ تُناهض الكيان الإسرائيلي في عالمنا العربي والإسلامي. بل اعتدنا أن نسمع الكثير حول ضرورة إزالة الإحتلال الإسرائيلي من فلسطين. لكننا لم نعتد سماع خطابٍ يُطالب بنقل الكيان الإسرائيلي من فلسطين الى الولايات المُتحدة، ومن أصواتٍ غربية. وهو الأمر الذي يعني اعترافاً ضمنياً بعدوم أحقية وجود ما يُسمى بـ “اسرائيل” في فلسطين. الأمر الذي يضرب المشروع الصهيوني في جوهره.
إذن يمكن وصف ما يجري اليوم، بأنه نكسة للمشروع الصهيوني. وهنا فإن المحاولات الإسرائيلية التي لا طالما سعت لتقليل أثر الحملات الغربية المناوئة لتل أبيب، لم تُفلح. بل دخل على الخط سياسيون بارزون في دولةٍ مثل بريطانيا، ونقلوا الخلاف من المجتمع المدني الى أروقة الحكم. فهل سيفتح هذا الباب أمام مناهضة الصهيونية في أوروبا؟ خصوصاً بعد أن تمرَّدت بريطانيا على جنينها الصهيوني!
المصدر / الوقت