التغيير الديمغرافي في العراق سياسة أمريكية مقصودة
حذر الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق يان كوبيش أن “حوالي مليوني عراقي قد ينزحون عن ديارهم خلال هذا العام، حال استمرار حدة المعارك الدائرة”. هذا النزوح وبالرغم من كونه نتيجة طبيعية للحرب الدائرة في العراق، إلا أن هناك مخاوف جدية من مساعي ممنهجة لتغيير البنية الديموغرافية لبعض المناطق من خلال الدفع أو استغلال نزوح السكان الأصليين، لاحلال مكانهم تجمعات منظمة من طيف معين، مثلاً كإخلاء المناطق الكردية من المكونات غير الكردية، أو اخلاء بعض المناطق من الشيعة واحلال مكانهم السنة وبالعكس، وبالتالي تشكيل كانتونات ومناطق تسكنها طائفة واحدة، مما يمهد مستقبلاً للتقسيم، في سيناريو مشابه لما حصل مع السودان في قضية انفصال اقليمه الجنوبي بدعوى أنه أصبح ذو غالبية مسيحية.
لا شك أن التغيير الديموغرافي يصب في مصلحة المشروع المعلن لنائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يهدف إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول طائفية، وقد شكلت الحرب الطائفية التي سادت العراق بين عامي 2005 – 2007 وما نتج عنها من تكوين كانتونات مذهبية حتى داخل المدينة الواحدة، خطوة هامة باتجاه مشروع التغيير الديموغرافي، واليوم يتقدم هذا المشروع عدة خطوات إضافية بعد سقوط مساحة واسعة من العراق في أيدى تنظيم داعش الارهابي، وموجة التهجير التي حصلت نتيجة المجازر الوحشية التي ارتكبها التنظيم، والمعارك الهادفة لاسترجاع المناطق التي بحوزته.
ومن المؤكد أن أمريكا لا تقف موقف المتفرج إزاء ما يحصل بل تعمل بشكل ممنهج على تكريس هذا الواقع بما يخدم مصالحها النهائية في تقسيم العراق، وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: الحفاظ على الارهاب المتمثل بتنظيم داعش الارهابي، وذلك من خلال عدم المواجهة الفاعلة له، فبالرغم من التحالف الذي تقوده أمريكا لضرب “داعش”، والذي يضم أكثر من ستين دولة، لديها أعتى الجيوش في العالم وأحدث الأسلحة والتقنيات الحربية والمهارات الاستخباراتية، إلا أن تنظيم داعش الارهابي واصل تمدده تحت مظلة هذا التحالف الدولي، حيث أن سياسة أمريكا تقضي بتوجيه ضربات محدودة تحد من قوة “داعش” دون القضاء عليه، ذلك بهدف بالحفاظ على ظاهرة الارهاب وتوظيفها عراقياً واقليمياً لخدمة مصالحها، وهذا ما بدى واضحاً من خلال العوائق التي وضعتها أمريكا أمام الحشد الشعبي لمنعه من مواصلة زحفه لتحرير المناطق من قبضة داعش، إضافة إلى التقارير التي تحدثت عن القاء مساعدات من الجو لهذا التنظيم عدة مرات، قالت أمريكا أنها وقعت بالخطأ!
ثانياً: اضعاف سلطة الدولة المركزية، فأمريكا التي تعزز حالة الارهاب من جهة، تقوم بحجة الحرب على الارهاب بتسليح الأكراد وعدد من العشائر العراقية خارج إطار الدولة المركزية، حيث قامت بتسليم عتاد عسكري إلى قبائل عراقية من دون تنسيق مع حكومة بغداد، كما تقدم أمريكا المساعدات العسكرية للإقليم الكردي بشكل مباشر أيضاً، من خلال قاعدتها العسكرية للجيش الأميركي في منطقة عين كاوه بأربيل عاصمة الإقليم، وهذا من شأنه إضعاف سلطة الدولة المركزية على الاقاليم العراقية، و بالتالي عدم قدرتها على الوقوف في وجه التغيير الديموغرافي الحاصل.
ثالثاً: ضرب التعايش بين أطياف الشعب العراقي، وتعزيز الانقسام المذهبي من خلال تشويه صورة الحشد الشعبي، وإشاعة أن القوى الحكومية والحشد الشعبي إذا دخلوا إلى مناطق سنية أو شاركوا في تحريرها، فإنهم سوف يقومون بمجازر، وقد ركز الاعلام الأمريكي كثيراً على هذا الأمر، فيما زعم ديفيد بتريوس، رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق، بإن “الخطر الحقيقي على استقرار العراق والمنطقة بأكلمها على المدى الطويل يأتى من قوات الحشد الشعبي التى تساند الجيش العراقى وليس من تنظيم داعش”! .. وتهدف إمريكا من هذه السياسة إلى تكريس مفهوم أن الشعب العراقي غير قادر على التعايش فيما بينه، والتالي تشجيع العزل القومي والمذهبي وتشكيل الكانتونات الطائفية.
هذا الوضع الذي تعمل أمريكا جاهدة على تكريسه في العراق.. يتم للأسف بدعم من بعض الساسة العراقيين، الذين يسهلون لأمريكا تحقيق مآربها في تقسيم العراق من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وذلك من خلال مماشاتهم للمخطط الأمريكي وعدم التصدي له، وتسعير الحرب الكلامية بينهم وبين بقية الأطياف السياسية العراقية، ولا شك أن الأزمة السياسية والشلل الذي يطال الحكومة ومجلس النواب يقدم خدمة جليلة لهذا المخطط الأمريكي ويضع جميع الساسة العراقيين أمام مسؤولياتهم في الحفاظ على وحدة العراق، وتحقيق أمن شعبه، ولهذا وجب على النخب السياسية التصدي لهذا الخطر من خلال توعية المجتمع، لمخاطر ما يحصل، والتصدي لهذا المخطط الجهنمي من خلال دور اعلامي فاعل يدعو إلى ضرورة الوحدة والانسجام الوطني ونبذ التفرقة والعمل جميعاً تحت مظلة الدولة في مواجهة الارهاب.
المصدر / الوقت