عمليات تحرير الفلوجة والرقّة.. بين الواقع الميداني والكواليس السياسية
بعد إنطلاق عمليات تحرير مدينة الفلوجة في العراق يوم الإثنين الماضي بأمر من رئيس الوزراء “حيدر العبادي” وتحرك قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي من المحاور الشرقية والجنوبية والشمالية نحو هذه المدينة إنتشرت أخبار تشير إلى أن السفير السعودي في العراق “ثامر السبهان” إلتقى وزير الدفاع العراقي “خالد العبيدي” وأبلغه نقلاً عن قيادة تنظيم “داعش” الإرهابي بأنهم على إستعداد لمغادرة الفلوجة دون قتال وضمن شروط معينة، وقد حظي هذا الأمر بموافقة القيادة العسكرية في حكومة “العبادي”.
وبالتزامن مع عمليات تحرير الفلوجة إنطلقت عمليات أخرى لتحرير مدينة الرقّة شمال سوريا من عناصر “داعش” بالتنسيق بين القوات الأمريكية والقوات الكردية السورية.
وتحظى عمليات تحرير الفلوجة والرقّة بأهمية خاصة يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
تم تجربة نوعين من العمليات لمحاربة تنظيم “داعش” في العراق؛ الأول بقيادة القوات العراقية بمحورية جبهة المقاومة المتمثلة بالحشد الشعبي والتي تمكنت خلالها هذه القوات من تحرير المناطق التي كانت محتلة من قبل “داعش” في محافظات بابل وصلاح الدين وكركوك وديالى، فيما تم النوع الثاني بمحورية القوات الجوية التابعة للتحالف الدولي بقيادة أمريكا كما حصل في تحرير مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار غرب العراق قبل عدّة أشهر.
وعمليات النوع الأول تمت بعد الحصول على معلومات دقيقة عن مواقع ومقرات تنظيم “داعش” قبل إستهدافها ومن ثم السيطرة عليها ولهذا لم تلحق هذه العمليات خسائر كبيرة بالمناطق السكنية والقوات المهاجمة، وأسفرت عن تحرير أربع محافظات بشكل كامل وهيأت الأرضية لعودة النازحين إلى منازلهم.
أمّا النوع الثاني من العمليات الذي إعتمد على القصف الجوي العنيف فقد أدى إلى تدمير عدد كبير جداً من المناطق السكنية إلى الحد الذي حوّل مدينة الرمادي إلى تلول من الخرائب. ويمكن القول إن نسبة الخسائر في هذه العمليات في صفوف المدنيين وصلت إلى نسبة كبيرة جداً في حين كانت الخسائر في صفوف القوات المهاجمة قليلة جداً؛ وبعد إنتهاء العمليات لم تعد المدينة صالحة للسكن أو الإستفادة منها كمنطلق لتحرير مناطق أخرى من تنظيم “داعش”.
أدركت قيادات “داعش” بأنها لم تعد قادرة على مسك الأرض التي يحتلها التنظيم سواء تم الهجوم عليها من قبل القوات العراقية بمحورية الحشد الشعبي أو من قبل القوات الجوية التابعة للتحالف الدولي بقيادة أمريكا. ولهذا برزت خلافات شديدة بين قادة “داعش” من جهة، وتقلصت قدرة التنظيم على المواجهة العسكرية إلى حد كبير خصوصاً خلال الأشهر الأخيرة.
السؤال المطروح حالياً هو: لماذا تحولت محاربة “داعش” إلى أولوية لدى القيادة الأمريكية في هذا الوقت بالذات بعد أن كانت تماطل وتسوّف وتضع العراقيل بوجه القوات العراقية والحشد الشعبي لمنعهم من طرد “داعش” وتحرير المدن العراقية التي تقع تحت سيطرة هذا التنظيم الإرهابي؟
الإجابة عن التساؤل تكمن بمحاولة الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي ينتمي له الرئيس “باراك أوباما” للإستفادة من قضية محاربة “داعش” كورقة رابحة في خوض الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر / تشرين الثاني القادم.
وهناك تساؤل آخر هو ما الذي فعلته أمريكا حتى الآن في مجال محاربة الإرهاب على فرض إنها لم تكن لها يد في تشكيل أو دعم الجماعات الإرهابية والتكفيرية سواء في العراق أو سوريا؟ خصوصاً فيما يتعلق بـ “جبهة النصرة” التي تسيطر على مناطق واسعة في خمس محافظات سوريّة هي حلب ودرعا والسويداء والقنيطرة وأدلب.
ويعتقد الكثير من المراقبين بأن “جبهة النصرة” هي أخطر بكثير من تنظيم “داعش” الارهابي لأنها تضم في صفوفها حركات أخرى بينها ما يسمى “أحرار الشام” و “فتح الإسلام” و “جیش الفتح” و “جیش الإسلام” و “فیلق دمشق” وغيرها من الحركات الإرهابية، في حين لا يضم “داعش” في صفوفه حركات أخرى. ومن هنا تتضح الأهداف الإستراتيجية للإدارة الأمريكية الحالية في التركيز على محاربة “داعش” وغض الطرف عن “جبهة النصرة” لأنها تعتقد بأن “داعش” يمكن القضاء عليه أو الحد من قوته، في حين ترى إن القضاء على “جبهة النصرة” ليس بالأمر اليسير بسبب كثرة الحركات المنتمية لها من جانب، وتشابك خيوطها من جانب آخر.
من هنا يمكن إدراك سبب هجوم القوات الأمريكية بالتنسيق مع أكراد سوريا على “داعش” في الرقّة ومشاركة سلاحها الجوي في قصف مواقع هذا التنظيم في الفلوجة.
إنطلاقاً من الرؤية الآنفة الذكر يمكن فهم سبب طلب السفير السعودي من وزير الدفاع العراقي السماح لداعش بمغادرة الفلوجة دون قتال، ولماذ لم يبدِ هذا التنظيم مقاومة ملحوظة أمام الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي في هذه المدينة والقرى المحيطة بها، وهو ما دعا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى التأكيد بأن تحرير الفلوجة بالكامل سيتم خلال يومين أو ثلاثة خصوصاً بعد أن تمكنت القوات العراقية من السيطرة على مناطق كثيرة داخل وخارج المدينة خلال فترة زمنية قصيرة جداً لم تتعدى سوى ساعات قليلة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفلوجة تحظى بأهمية إستراتيجية لعدّة أسباب بينها قربها من العاصمة العراقية، حيث لا تبعد عنها سوى 70 كلم تقريباً، وشهدت خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية الكثير من المعارك وحروب العصابات، كما تحوّلت إلى قاعدة للجماعات الإرهابية لتنفيذ هجمات دموية ضد الشعب العراقي ومؤسساته الحكومية والمدنية لاسيّما في بغداد.
بالإضافة إلى أنها تقع على الطريق الرئيسي الواصل بين العراق والأردن، والذي يحظى بأهمية إستراتيجية من الناحيتين العسكرية والإقتصادية.
من خلال قراءة المعطيات المشار إليها أعلاه يمكن القول بأن عمليات تحرير الفلوجة والرقّة من “داعش” حصلت في ظل توافقات سياسية بين أمريكا وقيادات “داعش” يتم من خلالها السماح لعناصر هذا التنظيم بمغادرة هاتين المدينتين مقابل حصول إدارة أوباما والحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه على مكاسب سياسية ليتم توظيفها في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.
بعيداً عن الإنتخابات الأمريكية تسعى واشنطن لأن تكون اللاعب الرئيسي والطرف الفاعل في رسم الأحداث المستقبلية في كل من العراق وسوريا كما فعلت في أفغانستان عندما إتفقت مع حكومتها على إبقاء نحو 16 الف عسكري أمريكي في هذا البلد. وبعبارة أخرى تسعى أمريكا إلى تحويل المنطقتين الغربية من العراق والشرقية من سوريا والتي تسكنها غالبية سنيّة إلى قاعدة لقواتها العسكرية لإكمال مشروعها الرامي إلى تشكيل حزام أمني يمتد من جنوب تركيا إلى الهند مروراً بأفغانستان ودول آسيا الوسطى والقوقاز والذي يهدف إلى إضعاف الوضع الأمني لإيران وروسيا بشكل خاص. ولكن من الوهم التصور بأن موسكو وطهران غافلتين عن هذا المشروع، وهذا هو مكمن الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه أمريكا في هذا المجال.
المصدر / الوقت