هل تقترب تركيا فعلاً من حرب أهلية؟
يمر ما يقارب السنة على المعارك المستعرة في الجنوب الشرقي لتركيا بين القوات الحكومية من جهة والمسلحين التابعين لحزب العمال الكردستاني من جهة أخرى وذلك بعد انهيار وقف لإطلاق النار استمر عامين، حيث تشهد تركيا هذه الأيام صدامات ومعارك وصفت بالأعنف منذ عقدين.
تحذيرات عديدة صدرت من داخل تركيا وخارجها تحذر من أن تركيا تتجه إلى حرب أهلية على خلفية سياسة التصادم التي انتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه الداخل والجوار منذ بداية الأزمة السورية وحتى الآن.
صلاح الدين دميرطاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي حذر أول أمس في حوار مع صحيفة ايريش تايمز من نشوب “حرب أهلية قومية” في تركيا نتيجة تنامي الانقسام بين الأكراد والأتراك. واعتبر دميرطاش أن للحرب في سوريا دوراً فيما يحصل في تركيا ذلك بأن الدولة التركية تنظر إلى الأكراد في سوريا وتركيا بعين واحدة.
على الصعيد الخارجي، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 14 أبريل/نيسان الماضي بأن “هناك حربا أهلية فعلية دائرة في جنوب تركيا التي تتعاون قيادتها الحالية مع الجماعات المتطرفة بدلا من أن تحاربها”. كما أكد سفيران أمريكيان سابقان لدى أنقرة أن تركيا تتجه إلى حرب أهلية بسبب سياسات أردوغان “الاستبدادية”، حيث أوضح “مورتون ابراموفيتش” و”ايريك ايديلمان” في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في 11 مارس/ابريل الماضي أن تركيا تواجه الآن خطورة ارتداد الإرهاب إليها. وتأتي هذه التحذيرات في ظل تقارير عديدة لصحفيين غربيين ومحليين وصفت ما يحدث في تركيا على أنها بداية لحرب أهلية، فيما تفرض الدولة التركية تعتيماً على الأحداث في ديار بكر وتمنع الصحفيين من التجول بحرية وتقصي الحقائق.
من جهته يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تكذيب التقارير التي تتحدث عن حرب أهلية واصفاً إياها بـ “الملفقة” حيث قال في كلمة له خلال مراسم تقديم جوائز لغرفة تجارة ولاية ريزا شمالي البلاد، إن صحفيين غربيين يلفقون ويروّجون للحالة التي تشهدها تركيا في مكافحتها للإرهاب بأنها تعيش حربا أهلية، مشيرا إلى أنهم لن يسمحوا باندلاع حرب كهذه.
إلا أن ما يمكن الاذعان به بشكل واضح أن تركيا اليوم لا تشبه تركيا السابقة منذ خمس سنوات وأن الأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بها زادت من حدة الانقسام والتوتر على صعيد الداخل التركي.
مظاهر حرب حقيقية في المناطق ذات الغالبية الكردية
يمر الصراع بين الدولة التركية والأكراد بأعنف مستوياته منذ عقدين، حيث بدأت أعمال العنف منذ انهيار الهدنة مع حزب العمال الكردستاني في تموز يوليو الماضي على أثر التفجير الذي وقع في مدينة سوروش التركية والذي خلف 38 قتيلا من الأكراد اتهم حزب العمال الحكومة التركية بالمسؤولية عنه من خلال عدم حمايتها الأكراد وتقديمها الدعم لتنظيم داعش الارهابي الذي أعلن مسؤوليته عن العملية. ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع بين الجانبين يأخذ مساراً تصعيدياً.
في مدينة ديار بكر المدينة العريقة على نهر دجلة، يتردد صدى صوت الحرب في كافة أرجاء المدينة، ويرتسم الخوف من تداعياتها على وجوه المدنيين، الدبابات والعربات المصفحة تجوب الشوارع وعناصر الجيش والشرطة يملؤون المكان، الشرطة تنشر عناصرها بكثرة أمام المؤسسات الحكومية، متاريس أقامها المسلحون الأكراد في أحياء المدينة لتحديد مناطق الحكم الذاتي، شعارات وعبارات قد كتبت على الجدران تمجد “المقاومة الكردية” ورموزها.
المدرعات تجوب مدينة ديار بكر
منذ بداية المعارك الأخيرة أعلنت تركيا حظر التجوال بشكل متقطع في أربع ولايات على الأقل، هي شرناق وآغري وماردين وديار بكر. وقد أعلنت الدولة التركية بداية الأسبوع الماضي حظر التجوال في 10 مناطق ريفية من اقليم ديار بكر.
اليوم هناك مناطق عديدة في الجنوب الشرقي لتركيا قد أعلنت مناطق حكم ذاتي من قبل المتمردين الأكراد، كمدينة سيزر في الجنوب الشرقي، التي شهدت معارك بين الجيش التركي والأكراد نتج عنها الكثير من الدمار لهذه المدينة، في نفس الوقت تشن الطائرات التركية غارات على بعض المناطق الريفية التي تعتبر أوكاراً لحزب العمال الكردستاني، بينما يتزايد عدد الضحايا من المدنيين.
تشييع لمدنيين سقطوا أثناء المعارك في المناطق الكردية
على مدار الأشهر الثلاث الماضية نشبت معارك بين الدولة التركية ومسلحين تابعين لحزب العمال الكردستاني في مدينة نصيبين قرب الحدود السورية وفي إقليم شرناق قرب الحدود مع العراق ذهب ضحيتها حوالي 1000 شخص غالبيتهم من الأكراد. كما قام المسلحون الأكراد بعدة تفجيرات أمام مراكز حكومية كان آخرها التفجير الذي حصل ليلة 12 أيار/ مايو عند مدخل قرية “دوروملو”، بقضاء “سور” بديار بكر، راح ضحيتها 16 شخصا وأصيب 23 آخرون.
صورة من الدمار الذي خلفته المعارك في ديار بكر
وفقاً للمعلومات الصادرة عن الجيش التركي، فقد قتل حوالي 440 مقاتل كردي منذ منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعد أن أرسلت تركيا 10.000 من أفراد قوات الأمن إلى منطقة العمليات العسكرية الحاسمة التي تستهدف الآلاف من المقاتلين الأكراد الذين أعلنوا الحكم الذاتي في عدد من المدن والبلدات في أنحاء جنوب شرق تركيا.
تحديات تهدد السلم الداخلي في تركيا
هذه الأوضاع المضطربة التي تشهدها تركيا، هي نتيجة لعدة متغيرات تركت آثارها السلبية على السلم الأهلي في الداخل التركي، والتي نلخصها بما يلي:
أولاً: استخدام أردوغان لورقة القومية لكسب الأصوات
فالرئيس أردوغان الذي سيطرت فكرة تغيير الحكم من برلماني إلى جمهوري على اهتمامه في الفترة الماضية مارس لعبة خطيرة من خلال انتهاج سياسة تصعيدية متعمدة مع الأكراد من أجل كسب أصوات المحافظين والقوميين في تركيا في الانتخابات البرلمانية، وهو بالفعل ما تحقق له، إلا أن أردوغان لم يلتفت إلى الأخطار المستقبلية الناجمة عن هذه السياسية والتي بدأنا نرى ثمارها اليوم من خلال انقسام حاد في المجتمع التركي تجلى في الهجمات والاعتداءات التي تعرضت لها المقار التابعة لحزب الشعوب الديمقراطي واضرام النار في عدد منها.
وقد قامت الحكومة التركية باعتقال وسجن العديد من الشخصيات الكردية على خلفية اتهامها بالتعامل مع منظمة “ب ك ك” الارهابية، كما يمضي أردوغان قدماً في تنفيذ مشروع رفع الحصانة القضائية عن 138 عضواً في البرلمان التركي غالبيتهم من الأكراد بما يمهد لتقديمهم إلى المحاكمة.
ثانياً: الدور المتصاعد لأكراد سوريا والدعم الدولي الواسع الذي يحظون به
حيث أن الدور المتصاعد للأكراد على الساحة السورية والدعم القوي الذي يحظون به من أمريكا وروسيا والدول الأوروبية، عزز الطموحات لدى الأكراد الأتراك بإقامة حكم ذاتي، وقد ألمح دميرطاش إلى ذلك في تصريح لصحيفة وول ستريت جورنال بداية العام الجاري حيث قال: “الأكراد قوة متنامية في الشرق الأوسط”، “يجري الآن إعادة كتابة مصير منطقة الشرق الأوسط، ولا نريد نحن الأكراد تكرار الأخطاء التي وقعت قبل 100 عام”، الأمر الذي يبدو أنه محاولة لاستغلال المكاسب التي يحققها الأكراد في سوريا لتصعيد دعواته لإقامة الحكم الذاتي في تركيا.
ثالثاً: تهديدات تنظيم داعش الارهابي
فالتفجيرات الارهابية التي استهدفت المناطق الجنوبية من البلاد والتي أعلن التنظيم الارهابي مسؤوليته عنها، كان غالب ضحاياها من الأكراد، الأمر الذي زاد من الاحتقان ضد الحكومة التركية في ظل اتهامات للرئيس أردوغان بتسهيل عمل داعش داخل الأراضي التركية، كما يتهم الأكراد الأتراك الحكومة التركية بالتقاعس إزاء ما حدث في كوباني وتعرض أشقائهم الأكراد السوريين للقتل من قبل عناصر التنظيم الارهابي، وهو ما ساهم في تعزيز الانقسام بين الأكراد والحكومة التركية.
من ناحية أخرى فإن حرية التحرك التي يحظى بها التنظيم الارهابي داخل الاراضي التركية، قد مكنته من بناء شبكة واسعة لا شك بأنها تشكل تهديداً استراتيجياً على السلم الأهلي على المدى المنظور.
رابعاً: الصراع مع فتح الله غولن
مؤخراً وافق مجلس الوزراء التركي رسمياً على تصنيف الحركة الدينية التي أسسها غولن كمنظمة ارهابية، وبذلك انضمت الحركة إلى جانب داعش ومنظمة “ب ك ك” إلى الجماعات التي ينبغي على الدولة التركية مواجهتها. فغولن بكل ما يملكه الاخير من عمق ونفوذ في المدارس الدينية والحياة الاقتصادية والقوات المسلحة وايضا من علاقات مع دول غربية وفي مقدمتها امريكا التي يقيم فيها، أصبح مصدر تهديد لأردوغان الذي يتهمه بالتآمر للإطاحة به. وقد تم إغلاق شركات إعلامية مرتبطة بكولن أو فرض الوصاية القضائية عليها واعتقال المئات. وفقد آلاف من أنصار كولن في الشرطة والقضاء وظائفهم أو تم إبعادهم لمواقع أخرى.
خامساً: قمع الحريات والصحافة
فالسياسة التصادمية التي انتهجها أردوغان ضد خصومه رافقها حركة قمع للحريات والصحافة تجلت بإغلاق العديد من الصحف وزج شخصيات صحفية في السجون ويرى مراقبون أن الاحتقان الداخلي بدأ يظهر جلياً في تركيا منذ أحداث ساحة تقسيم في 2013.
ما تحتاجه تركيا ورئيسها أردوغان اليوم هو القيام بمراجعة جدية وشاملة لسياساتها الداخلية والخارجية، والكف عن المقامرات السياسية ولعب ورقة التحشيد القومي لخدمة اجندات سياسية محدودة، قد تتمكن من تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي، لكنها قد تقود البلاد إلى حافة الهاوية، ولعل كلمة السر لإنقاذ تركيا من الفوضى يكمن في الأزمة السورية، فهل يتدارك الأتراك أخطاءهم؟!!
المصدر / الوقت