المؤسسة الدينية في العراق: دورٌ حكيم ونموذجي في إدارة التحديات
قيل في العراقيين الكثير، حتى أن البعض خرج ليصفهم، بأوصافٍ تضعهم في خانة الأتباع. في حين لم يكن ذلك، إلا مُخططاً أمريكياً يهدف لترسيخ قاعدة أن الشعب العراقي ليس أهلاً لإدارة شؤونه، وهو الأمر الذي يخدم مصلحة أمريكا، وحلفاءها. لكن الحقائق التاريخية، ومعطيات الحاضر الذي نعيشه، تجعلنا نجد تميزاً لدى العراقيين، استطاعوا تقديمه خلال الظروف الحالية، والتي تُعتبر الظروف الأصعب التي تمر بها الأمة، وكذلك العراق. في وقت حاول الكثيرون التساؤل عن سبب نجاحهم في ذلك، لنجد أنه يعود للدور الكبير والحكيم الذي تحظى به المؤسسة الدينية عموماً، والمرجعية الشيعية خصوصاً، لا سيما في أحداث العراق الأخيرة. إلا أن هذا الدور، تخطى الحكمة ليكون نموذجياً، وهو ما سنحاول قدر الإمكان تسليط الضوء عليه، مع الإعتذار عن التقصير. فكيف أثبتت المؤسسة الدينية المتمثلة بالمرجعية، حكمتها في التعاطي مع التحديات التي عصفت بالعراق؟ ولماذا يجب اعتبارها نموذجاً يجب التوحد تحت ظله، لا سيما في ظل التحديات السياسية الداخلية؟
المؤسسة الدينية ودورها التاريخي
إن الخصوصيات الإجتماعية والقيمية التي يتميز بها الشعب العراقي، جعلته يخرج عن أغلب المعادلات السياسية التي تعتمدها نظريات السياسة المعاصرة. وهو الأمر الذي أدركته المؤسسة الدينية العراقية، حيث نجحت على مرِّ التاريخ الحديث، في إدارة عملية تدخلها في العملية السياسية، أو عدمه، بحسب تقديرها للموقف. حيث يمكن القول اليوم إن ذلك يُعتبر ذكاءاً وحكمةً في تقدير الظروف، عبر التعاطي بطريقة ذات بعد إداري وإستراتيجي جديد، وبعيد عن المفهوم المُتَّبع في العلاقة بين الدين والدولة.
وهنا فإن الدور المهم للمرجعية الدينية، تاريخي. حيث كان لها أثرٌ فاعل في أحداث العراق والمنطقة، قبل سقوط النظام البعثي، مروراً بزمن الإحتلال الأمريكي، وصولاً الى محاربة الإرهاب اليوم. ويعود تاريخ مشاركة المؤسسة الدينية في صلب العملية السياسية إلى سنوات الحرب العالمية الأولى، حيث دعت المرجعية الشيعة حينها، للجهاد ضد الإنكليز. وفي عام 1918 تأسس في النجف حزب يُعرف بإسم “حزب النجف السري” من رجال سياسة ودين، وكان برنامجهم يدعو لإستقلال العراق. ثم حصلت الإنتفاضة الشعبانية عام 1991، والتي تنامى دورها بعد الإحتلال الأمريكي للعراق 2003.
ونتيجة لصعود التيارات السياسية الإسلامية والقومية والمدنية إلى السلطة في العراق بعد سقوط النظام البائد، ظهرت العديد من الأصوات الشعبية، المطالبة بإشراف ورعاية المرجعية الدينية في النجف الاشرف للعملية السياسية في العراق وعدم ترك الأمور بيد الإحتلال والتيارات السياسية الجديدة المختلفة. وفعلاً دعت المرجعية لأخذ رأي الشعب في كل الأمور التي تخص البلد، من الدعوة لتشكيل حكومة عراقية ثم الدعوة لكتابة دستور دائم للعراق وإجراء إنتخابات حرة ونزيهة.
الدور الراهن للمؤسسة الدينية
لا يزال للمرجعية الدينية في النجف الأشرف، دورٌ مهمٌ في المرحلة الراهنة لأجل تشخيص نقاط القوة والضعف في الأداء السياسي وإدارة مصلحة العراق المحلية والإقليمية. وهو الأمر الذي برز بشكلٍ لافت بعد دخول تنظيم داعش الإرهابي للعراق، وسيطرته على أجزاء مهمة في الموصل والأنبار وكركوك وصلاح الدين. والتي أدت لصدور فتوى الجهاد الكفائي لصد التنظيمات الإرهابية والدفاع عن الوطن.
هناك عدد من الأحداث والتطورات التي ظهرت في العراق بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003، وجعلت المرجعية الدينية تخرج عن طورها التقليدي إلى التدخل المباشر عبر التوجيه والإرشاد، وإصدار البيانات حول العمل السياسي، الى جانب دعوة ومساندة الجماهير في مطالبها السياسية والإجتماعية والدعوة إلى التهدئة وعدم الإنجرار وراء الفتن الطائفية. وهنا يمكن قول التالي:
1- بعد وصول التنظيمات الإرهابية إلى المناطق المقدسة والسكنية، والشعور بأنها باتت خطراً وجودياً على حياة العراقيين كافة، بسبب قتلها الآلاف خصوصاً في الموصل وصلاح الدين. ولأن القوات العسكرية النظامية من الجيش والشرطة غير قادرة على وقف تقدم الإرهاب وحدها، نتيجة الضرر الذي أحدثته السياسة الأمريكية في العراق، وتدميرها للمؤسسة العسكرية، أدركت المرجعية الدينية خطورة الوضع، واحتمال انجرار البلاد لحرب، مما دفع بالمرجعية الدينية لدعوة العراقيين إلى الجهاد الكفائي للدفاع عن الوطن والمقدسات. وهو ما أثمر تشكيل قوات الحشد الشعبي ودعمها بالمال والسلاح، للتعويض عن التخاذل السياسي لدى بعض الأطراف.
2- ولعل الرؤية التي انطلقت منها المرجعية، تعتمد على ضرورة الإحتفاظ بالطابع الإسلامي للعراق، خاصةً فيما يتعلق بوقوفه بوجه الإحتلال الأمريكي والمد التكفيري. وهو ما دفعها للتناغم مع المرجعية الدينية في إيران وتوجيهات ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي. مما ساهم في إيجاد حالةٍ من التقبُّل الشعبي الداخلي العراقي. وجعل العراق يخرج من مشروعٍ كانت تحاول أمريكا إنشاءه وترسيخه، نحو مشروعٍ قوميٍ أكبر، يجعل الشعب العراقي ذا دورٍ في المنطقة والإقليم.
3- ولأن المرجعية استطاعت كسب التأييد الشعبي، من مختلف شرائح ومكونات المجتمع العراقي، وذلك لمواقفها الوطنية الجامعة، وتصديها لدعم القيادات السياسية تحقيقا للتوازن السياسي في البلاد، ومنعاً لقيام حرب طائفيةٍ أو أهلية، مارست أمريكا وحلفاؤها في المنطقة سياسةً تقوم على استغلال التجربة الجديدة للشعب العراقي، والقيام بمحاولة بث الخلافات الداخلية المذهبية، وضرب الحلف القومي الإقليمي بين إيران والعراق.
إذن، إن الأسلوب الناعم الذي اعتمدته المرجعية الدينية في النجف، يستحق فعلاً أن يكون مدرسة مستقلة بحد ذاته. لأن المرجعية نجحت بأدواتها البسيطة وبالإعتماد على الإلتفاف الشعبي، دون امتلاكها لأي سلطة سياسية عراقية، أن تُغيِّر الكثير من المعادلات، مع أخذها بعين الإعتبار تعقيدات الساحة الداخلية العراقية. ليُصبح كلام المرجعية شعارات ترفع في المظاهرات، ومطالبات رسمية يقدمها المسؤولون المنضوون تحت عباءتها، والمؤمنون بحكمتها.
أما اليوم، وفي ظل النجاحات التي يحققها العراق، يُسجَّل للمرجعية أنها استطاعت إيصال العراقيين لمرحلةٍ من الإعتماد على النفس، لا سيما في المجال العسكري. حيث أن تشكيل قوات الحشد الشعبي، رفع من مستوى أداء العراق، وجعلته لاعباً إقليمياً يتناغم في توجهاته مع محور المقاومة الذي ترأسه الجمهورية الإسلامية في إيران، وأبعدته عن مشروع واشنطن التخريبي. كلُّ ذلك، نتيجةً لدور المؤسسة الدينية في العراق وتحت عين وتوجيهات المرجعية. الأمر الذي يمكن وصفه بأنه تخطى الدور الحكيم، ليُصبح دوراً نموذجياً في إدارة التحديات الراهنة.
المصدر / الوقت