الاعتذار التركي لروسيا بين إصرار بوتين ومصالح أردوغان
الوقت- قدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً اعتذاراً رسمياً لروسيا بسبب إسقاط القاذفة سو 24 وذلك في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وبعد قرابة 7 أشهر من الاصرار على المراوغة لم تتمكن أنقرة من السير في سياستها واضطرت في النهاية إلى تليين العلاقات مع موسكو وكسر الجليد الذي تسبب بخسائر كبيرة لتركيا، وعلى ما يبدو أن هذه الخسائر فاقت توقعات أردوغان الذي بدل موقفه بعد أن كان يصر على عدم الاعتذار ويعتبر أنه على روسيا أن تعتذر بسبب “اختراق طائرتها المجال الجوي التركي”، حسب تعبير الرئيس التركي في خطابات سابقة له.
أردوغان كان يدرك نوع تبعات ونتائج التوتر بين أنقرة وموسكو، ولكنه لم يكن يتوقع أن تصل النتائج إلى مستوى يتسبب بكسر ظهر أنقرة، وهذا ما نجح بوتين بفعله حيث تمكن في نهاية المطاف أن يجبر أردوغان على قلب مواقفه السابقة رأساً على عقب، ولا يهم ما إذا كان أردوغان فعلا قد اعتذر إلى بوتين أم لا (حيث نفى رئيس الوزراء التركي موضوع الاعتذار)، ما يهم أن الليونة في الموقف التركي باتت مشهودة أكثر من قبل فقد شهدنا منذ مدة رسالة من أردوغان إلى بوتين هنأه فيها بالعيد الوطني الروسي، وعلى كل حال يمكن تقسيم الضغوط التي قلبت موقف الحكومة التركية إلى قسمين:
ضغوط اقتصادية:
شهد الاقتصاد التركي هزات عنيفة في الآونة الأخيرة نتيجة الملفات السياسية التي أقحمت أنقرة نفسها فيها، وإن لم تكن موسكو هي المنشأ الوحيد لهذه الهزات إلا أنها كانت صاحبة الدور الأكبر، فالاقتصاد التركي الذي تشكل السياحة ركيزة أساسية فيه تأثر بشكل كبير نتيجة العلاقات المتوترة بين موسكو وأنقرة وذلك كون السياح الروس يشكلون جزءاً كبيراً من السياح الوافدين إلى تركيا، وفور اسقاط القاذفة الروسية انخفض عدد السياح الروس بنسبة 46% في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2015 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2014، وهذا جزء من الصدمة التي تلقتها تركيا.
لا يتوقف الموضوع على السياحة فكل التبادلات التجارية انخفضت إلى أدنى مستوياتها، فقد كانت تركيا تطمح أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2023 إلى 100 مليار دولار، وفي عام 2014 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 31 مليار، وإذا تم الأخذ بعين الاعتبار “تجارة الخدمات” فإن مؤشر التبادل التجاري الكلي (بضائع وخدمات) بلغ في عام 2014 ما يقارب 44 مليار دولار.
العقوبات الروسية على تركيا بدأت تهدد الاقتصاد التركي بشكل جدي وخاصة بعد تراجع السياحة في تركيا نتيجة الاحداث الأمنية التي شهدتها تركيا في الفترة الأخيرة، ومع فشل أردوغان في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تفاقمت الأوضاع الاقتصادية وبدأت الحكومة التركية تواجه خطراً اقتصادياً جاداً يضع شعبية أردوغان وحزب التنمية والعدالة على المحك.
ضغوط سياسية:
بعد التحولات الميدانية التي شهدتها المنطقة بدأت أنقرة تدرك أن واشنطن لا تهتم بمصالح حلفائها وأمنهم، فالأكراد باتوا يتقدمون في الشمال السوري على حساب تنظيم داعش الإرهابي وواشنطن تقدم دعم كبير للقوات الكردية، الأمر الذي يقلق أنقرة بشدة، فتركيا تخشى تشكيل دولة كردية في الشمال السوري ولهذا رأت تركيا أن إعادة فتح العلاقات مع روسيا قد يضمن حفظ بعض المصالح التركية في المنطقة وتحديداً في الملف السوري.
من البداية كان الرئيس التركي يدرك هذه النتائج ويتوقع حصولها، إلا أنه كان يعول على الزمن كعامل يكفل تراخي الموقف الروسي حيال اسقاط الطائرة، وكان أردوغان يرى أن موسكو التي تطالب باعتذار صريح اليوم ستكتفي بتلميحٍ في الغد ولن تطالب بشيء بعد غد، ولهذا حاولت الإدارة التركية اللعب على عامل الزمن حتى ينسى الروسي أصل المشكلة فينكسر الجليد دون تقديم تنازلات من أنقرة، وهذا ما لم يحصل إذ أبدت روسيا ثباتاً كبيراً في موقفها الذي لم يتبدل طيلة المدة السابقة، وبعد 7 أشهر من القطيعة لم تستطع تركيا التودد من روسيا بأي شكل من الأشكال وبقي عليها أن تقدم اعتذاراً كخطوة أولى لتصحيح المسار.
الضغوط التي شهدتها أنقرة هي التي كانت وراء التنازلات التي قدمها الأتراك على مسار تصحيح العلاقات مع موسكو، وحجم الضغوط التي تعاني منها تركيا في هذه الفترة يظهر جليا في تخلي أنقرة عن شرطها لإعادة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي حيث تخلى الأتراك عن مطلب فك الحصار عن غزة كشرط لإعادة العلاقات التركية الإسرائيلية، وفي هذا التنازل إشارة واضحة على حجم العزلة السياسية والاقتصادية التي وصلت لها أنقرة نتيجة سياساتها في المنطقة.
ليس واضحاً بعد هل سيكسر أردوغان حاجز الكبر الذي يمنعه من التودد إلى دول المنطقة فيعيد فتح العلاقات مع روسيا مقترباً من المعسكر الروسي، أم أن الرسالة التي أرسلها إلى بوتين ليست إلا طريقاً جديداً للمراوغة السياسية وللعب بين المعسكرين الأمريكي والروسي، وفي كل الأحوال ستكشف الأيام القادمة النية التركية الحقيقية، ولكن عندها ستكون تركيا قد فقدت قدرتها على العودة إلى جادة الصواب وستكون خسرت كافة الحلفاء والأصدقاء.
المصدر / الوقت