التحديث الاخير بتاريخ|الخميس, نوفمبر 14, 2024

الإنعطافة التركية نحو روسيا: حين تفرض الجغرافيا السياسية المعادلات 

لا شك أن تركيا تأخرت في فهم حجم دورها. فيما يمكن القول أن حجم الأدوار للأطراف، يتقاطع بطريقةٍ أو بأخرى مع الجغرافيا السياسية للدول. ولأن تركيا تمتلك جغرافيا سياسية قادرة على التأثير، لا سيما في الأزمة السورية، أفرغت أنقرة سياساتها في ظل الرؤية الأمريكية، بطريقة أحرقت فيها أوراقها وأغرقتها في مشروعٍ أمريكي، لم يُعطها أي دور، بل أثَّر على علاقاتها بالدول الإقليمية، وخلق لها أزماتٍ جديدة داخلية وخارجية. لكن تطورات الأزمة السورية، وخروجها عن المسار الذي رسمته واشنطن، والمعادلات الجديدة التي فرضها محور المقاومة ودور روسيا، جعل تركيا تُعيد النظر في مكانتها ودورها. فالجغرافيا السياسية لها تجعلها في قلب الأزمة. وبُعدها عن التأثير في القرارات الإقليمية بالحد الأدنى، سيجعلها تدفع ثمن السياسة الدولية على حساب أمنها القومي. لذلك كان لا بد من الإنعطافة تجاه روسيا. فكيف يمكن تحليل دلالات ذلك، بدءاً من الواقع الذي تعيشه أنقرة، وصولاً الى حاجتها للمشاركة في صنع القرار الإقليمي؟

الواقع الذي تعيشه تركيا: قراءة موجزة

قبل تحليل الإنعطافة التركية، لا بد من توصيف الواقع الذي تتسم فيه السياسة التركية حالياً. وهنا نقول التالي:

إن مسألة الإعتذار التي حصلت، جاءت نتيجة الشعور لدى أنقرة بالعزلة الدولية وغياب الدور. خصوصاً بعد أن أضحت لاعباً غير مؤثر على الصعيد الإقليمي، لا سيما بعد المشكلة مع روسيا. الى جانب ما فرضته الأزمة في سوريا من تحولات، وهو الأمر الذي لا يمكن لأنقرة الغياب عنه بسبب جغرافيتها السياسية.
وهنا فإن صعوبة التوأمة التركية بين المصالح التي تخدم أمنها القومي، ومصالح الأفرقاء في سوريا والمنطقة، لا سيما الدول التي كانت تسعى أنقرة لتطوير علاقتها معها، مع محاولة الحفاظ على الخطوط الحمر للتطلعات التركية، جعل أنقرة تُعيد النظر في علاقاتها على الصعيد الإقليمي.
وبالعودة على مُجريات الأحداث في سوريا، بدءاً من التحول في مسار العمليات لصالح النظام السوري ومحور المقاومة، مروراً بتراجع دور الدول التي أعتُبرت حليفة لتركيا خلال المرحلة الماضية لا سيما قطر والسعودية، وصولاً الى محاولة الطرفين الأمريكي والروسي التقدم في مسارٍ سياسيٍ مُعين بناءاً لمصالح كل طرف، كلها ظروف جعلت تركيا تغرق في الوحل السوري دون معرفة حجم التطورات ومدى تعقيدها.
بالإضافة الى ما تقدم، فإن ملف الأكراد، والذي أصبح مصدر قلقٍ لتركيا، لا سيما بعد أن دخل دائرة التجاذبات، بعيداً عن الأخذ بعين الإعتبار مصلحة أنقرة كما تراها، جعل تركيا أمام تحدٍ جديد وجدي، يُضاف الى التحديات الداخلية والإقليمية أمام أردوغان وفريقه.
كما أن التطورات الأخيرة المفصلية في الملف السوري، وتحديداً فشل المسار الأمريكي في فرض الهدنة المُخادعة، والقرار العملي الواضح لمحور المقاومة وروسيا في إنهاء معركة حلب، مع كل ما تعنيه حلب من ورقةٍ لدى الطرف التركي، وجدت أنقرة نفسها بحاجةٍ الى خطوةٍ تُعطيها إمكانية العودة الى كسب التأثير في الملفات الإقليمية، أو المشاركة في القرارات التي يمكن أن يكون لها إنعكاسٌ على أمنها القومي.
الخلاف مع روسيا: منعطفٌ على مفترق طرق

لم يكن الخلاف التركي مع روسيا، إلا خطوةً تُضاف الى مغامرات أنقرة. فيما خلَّف وتزامن هذا الخلاف مع عددٍ من الظروف الأخرى، والتي شكلت مشكلةً إضافية لتركيا. وهو ما يمكن ذكره بالتالي:

إن الخلاف التركي الروسي، منع أنقرة من استخدام مقاتلاتها في سوريا بالطريقة التي كانت سائدة قبل الخلاف، مما شلَّ حركة أنقرة العسكرية. وهو الأمر الذي منع تركيا من إدارة جغرافيا الإرهاب على الحدود، وضبط حركته، منعاً للتأثير على الداخل التركي.
لكن مسألة الخلاف مع روسيا، تزامنت مع الخلاف مع أمريكا حول ملف الأكراد. مما جعل الطرف التركي يفقد طرفين دوليين، أساسيين في العلاقات الدولية لتركيا. في ظل محاولاتٍ غربية لفك تركيا عن دول المشرق عبر دعم تأسيس كيانٍ للأكراد.
تزامن ذلك مع سياسة الإبتزاز الأوروبي. وهو ما بان في تصريحات المسؤولين الأوروبيين أيضاً. لا سيما فيما يخص ملف القضاء على الإرهاب وضم تركيا للإتحاد، وموضوع اللاجئين.
كل ذلك دفع بالأطراف الإقليمية والدولية، للتخفيف من إعتبار الطرف التركي، مما ساهم في دخول أنقرة في حالةٍ من العزلة السياسية وترقب النتائج لا أكثر. فعاشت أنقرة أزماتها الداخلية والإقليمية بعيداً عن الأطراف المؤثرة، في ظل منطقةٍ متشعبة المصالح ومعقدة الأزمات.
لماذا العودة من البوابة الروسية؟

عدة أمورٍ قد تجيب على هذا التساؤل، نسردها كما يلي:

لم يعد الطرف الأمريكي مرجعيةً لأنقرة، بالطريقة التي كانت سائدة. وهو ما لا يعني تراجع التأثير الأمريكي على تركيا، بقدر ما يعني تراجع الإعتبار التركي للطرف الأمريكي. خصوصاً بعد أن أضحت السياسة الأمريكية تتعارض في تفاصيلها مع ما تراه أنقرة في صالحها.
وهنا فإن النقطة الأهم لحل المشكلة التركية، تكمن في إعادة مسار الأمور الي ما كانت عليه قبل إسقاط الطائرة الروسية. وهو ما لا يمكن أن يحصل دون إعتذارٍ يليق بالطرف الروسي، ولا يقل بحجمه عن سوء التقدير والخطأ التركي بإسقاط الطائرة.
من جهةٍ أخرى، قد يظن الأتراك أنهم قادرون عبر عودتهم من البوابة الروسية، فرض معادلةٍ جديدة في العلاقة مع واشنطن. وهو ما يحتاج للنظر الى حجم ومدى تأثير تركيا المستقبلي. فيما أيضاً يجب الأخذ بعين الإعتبار أهمية المصالح المشتركة بين تركيا وروسيا إن حصل ذلك، ومدى تأثيره على محاولة كلٍ من موسكو وواشنطن إدارة الأزمات الدولية، كلٌ على طريقته وفيما يصب في مصلحته.
فيما سيكون لعودة العلاقات، أثرٌ كبير على السياسة التي ستنتهجها أنقرة مع تمدد الكيان الكردي. وهو ما لا يمكن أن تحسمه، إلا الخطوات المستقبلية لأنقرة في هذا المجال.
إذن، ليس ما يجري اليوم إلا نتيجة للتطورات الأخيرة في الملف السوري. فيما كان لجغرافية أنقرة، دورٌ في حثها على قيادة خطواتها نحو مزيدٍ من التعقل والحكمة. لكن المُقبل من الأيام، وحده يمكن أن يُحدد مجريات الأمور. فيما يمكن القول أن الإنعطافة التركية نحو روسيا جاءت نتيجة ما فرضته الجغرافيا السياسية من معادلات.
المصدر / الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق