الخطوات التركية: انبطاح أم استدراة برغماتية؟
لا يختلف اثنان أنه بعد تطور المشكلات السياسية للسلطة التركية مع عدد من دول المنطقة و انظمتها بات من الصعب رؤية أو فهم كيفية خط العودة التركي عن كل مشاكله هذه، خصوصاً أن سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذهبت بعيداً و عميقاً في عداءها أو خصامها في أحسن الأحوال مع الأطراف الأخرى، و المقصود هنا روسيا و الكيان الإسرائيلي و مصر و سوريا و الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد و أمريكا إلى حد ما، فما الذي جرى بين ليلة و ضحاها و دفع الاتراك إلى كل هذا التراجع و طأطأة الرأس و كل هذه التنازلات أمام خصوم الأمس؟ فهل هذه الخطوات إعادة ترتيب للبيت السياسي التركي و سياساته الخارجية؟ أم أن المارد التركي استفاق على كونه قزماً امام الإرهاب الذي يفتك فيه؟
في أسباب الإستدارة: الإرهاب المعنوي أولاً فالمادي ثانياً أسقطا النرجسية الأردوغانية
لم تكن الحرب السورية و تشكیل ما يسمى بداعش و الفصائل الأخرى المقاتلة في سوريا إلا باباً للجحيم الذي فتح على تركيا، أو ربما باباً راهنت على فتحه هي و بأقل تقدير ساهمت في ذلك، فالسعي و التورط التركي في تسهيل اشعال النار في البلد الجار لم يجلب لتركيا إلا الخراب و التراجع على مختلف الأصعدة، و من السهل ذكر أن الأزمة في سوريا سببت لتركيا المشكلة الأساس و الأكبر و هي التفجيرات الإرهابية التي لا تنفك تحصل بين الفينة و الأخرى و التي شكلت ضربة قاضية لتركية الآمنة سياحياً و اقتصادياً و على مجالات عدة أخرى فضلاً عن أزمة النازحين الكبرى.
و لكن الإرهاب لم يقف هنا فتركيا تعرضت لإرهاب معنوي كانت هي المسبب له بسياساتها الخارجية الفاشلة، فيمكننا القول أن تركيا أُذلت من قبل الأمريكيين و تراجعت العلاقات إلى أسوء حدودها بسبب السقف العالي لأردوغان بمطالبه من الإدراة الأمريكية في سوريا و غيرها و شهدنا التجاذبات التي حصلت، و القصة لم تنته هنا بل انسحبت الى العلاقة مع القطب الأكبر الآخر من العالم ألا و هي روسيا التي تحولت لوحش يريد افتراس الأتراك في أي لحظة غفلة منهم و طبعاً ذلك لأسباب جميعنا نعرفها و كلها أيضاً بسبب الأزمة في سوريا، و أيضاً لم ينتهي الإرهاب المعنوي هنا بل انسحب على العلاقة مع القطب العربي الأكبر و هي مصر التي تدمرت علاقتها مع تركيا بسبب مواقف تركيا من الثورة فيها، و حادثة سفينة مرمرة كانت هي الأخرى كفيلة بالقضاء على العلاقات التركية الصهيونية، و أزمة اللاجئين زادت الحساسية بين تركيا و الاتحاد الأوروبي أيضاً و صورت تركيا بصورة الاستغلالي بوجه الأوروبين للعبه بهذه الورقة، و ما هذه السردية إلا لنصف الحالة الإنعزالية التي وصلت إليها تركيا بعدما كانت تحلم بصفر مشاكل خصوصاً مع المحيط.
فما كان من الاتراك إلا ان قاموا بخطوات شجاعة لإستدراكهم قطار التسويات الذي بات يلوح في الأفق قبل أن “يطلعوا من المولد بلا حمص” كما يقول المثل، و لكن هل الخطوات اللاحقة جاءت متسرعة و غير منطقية، ام ان الحال التي وصلت لها تركيا تستدعي هكذا جرأة في التراجع؟..
داوود أوغلو كبش المحرقة
“أحمد داوود أوغلو” هو الأكاديمي التركي الذي رافق “أردوغان” حياته النضالية و الحزبية طوال سنوات و كان خير رفيق و سند، فتولى مناصب مهمة عدة كان آخرها و أهمها رئاسة الوزراء و التي استلمها معلناً شعاره المعروف بـ “صفر مشاكل” في العلاقات السياسية الخارجية مع المحيط و العالم، و لكن بعد فترة من الحكم لم يتمكن أوغلو من استمرار تماشيه مع سياسات أردوغان الغير اعتيادية في الوسط التركي، فهو يريد سلطنة يرأسها كسلطان لا جمهورية، و كان هذا واضحاً في تصرفاته و التغييرات الكثيرة الشكلية و الضمنية التي قام بها في قصره و من يحيط به فضلاً عن سعيه الحثيث لتحويل النظام إلى رئاسي تكون الكلمة العاليا فيه له فقط، فضلاً عن أن أحلام أردوغان اصطدمت بعوامل خارجية و ظرفية محيطة عدة سنذكرها لاحقاً، فكان لا بد أن تبدأ حلقة التغيير في المنطق التركي و لأجل ذلك كان لا بد من كبش محرقة لها يعطي أردوغان دفعة في استدارته كي تكون أسرع و مبررة و منطقية أكثر، و ما كانت هذه التضحية إلا برفيق النجاحات “داوود اوغلو”الذي اتهم بعدة اتهامات لم تمرّ على عاقل بسهولة لكي يصدقها، و بتعيين آخر مكانه “يلدرم” يتماشى مع الفكر الأردوغاني و التحولات الجديدة ويكون سمعاً و طاعةً لكل ما يريده السلطان. فكيف كانت الإستدارة التركية و أين بدأت بعد تقديم أوغلو كأضحية؟
فشل المساعي بمصالحة مصرية تركية
بدأت سياسة إعادة النظر التركية مع بدء المساعي التركية نحو مصالحة مع مصر بعدما وصلت العلاقة بينهم إلى القطيعة التامة بسبب دعم تركيا للإخوان و وقوفها بوجة المظاهرات الأخيرة التي أطاحت بحكم مرسي، و جاءت هذه المساعي بوساطة سعودية على أساس أن الموؤنة السعودية على مصر قد تكسر الجليد الذي بات قاس جداً في نفوس المصريين بسبب التدخلات التركية في شؤون بلادهم.
إلا ان هذه الخطوة لم تصل لنهاياتها السعيدة و باءت بالفشل فالشروط المصرية كانت أكبر من أن تتحملها تركيا، او بالأحرى إن حسابات المصالح التركية رأت في المصالحة صفقة خاسرة فغض الطرف عنها إلى أجل غير مسمى، و بات التركي يبحث عن مخرج آخر للخروج من انزلقاته المتكررة.
الإتفاقية مع الكيان الإسرائيلي و التضحية بفلسطين
عمل الرئيس التركي “أردوغان” منذ توليه الحكم على اللعب على الوتر المذهبي أو القومي الإسلامي، فحمل شعار الدفاع عن فلسطين و قضيتها إبّان الحملة الاسرائيلية على غزة و حصارها، فركب هذه الموجة و استطاع بالفعل جذب حركات المقاومة حوله و جمهر الرأي العام العربي الذي يتعاطف سريعاً مع هكذا دراما قومية و خصوصاً اذا ما تعلق الأمر بفلسطين.
و لكن بعد الأزمة السورية و تورط أردوغان فيها و انكشاف القناع عن سياساته خسر الأخير كثيراً من جماهريته امام العرب و حركات المقاومة خصوصاً، و باتت هذه الورقة دون نفع بيد تركيا، فضلاً عن ان العلاقة التركية الأمريكية تراجعت لأسوء حالاتها بسبب عدم انسجام سياسات تركيا مع أمريكا في سوريا، الأمر الذي دفع اكثر بأردوغان للتذلل أمام الصهاينة لإعادة تطبيع العلاقات فيما بينهم و التخلي عن كل الشروط التي كان قد وضعها و اهمها رفع الحصار عن غزة و ذلك سعياً لإرضاء أمريكا أولاً، و تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة من جراء عقود الغاز و غيرها التي ابرمها مع الكيان، و التي ربما تعوض بعض الخسائر التي منيت بها تركيا من جراء القطيعة الروسية أولاً و الخسائر السياحية من جراء الارهاب ثانياً.
الإعتذار و التنازلات أمام الروس
كانت خطوة تقديم اعتذار لروسيا بعد اشتداد الحساسية فيما بين الدولتين بعد اسقاط تركيا لطائرة روسية فوق الأراضي السورية أكثر من مفاجأة للعالم ككل بتوقيتها و سرعتها، لذا و مع القيام بهكذا خطوة تبين ان التركي يريد استدراك الأمور التي آلت اليها دولته من هذه الخطوات المتتالية، اذ ان قطار الحل و التسويات بات قريباً خصوصاً مع اندثار أحلام خلافة داعش التي راهن عليها “أردوغان” و ازدياد الحديث عن اقتراب تسويات كبرى بعد هذا الصيف الحامي الذي ستشهده معركة الإرهاب، و التركي يفكر طبعاً بحجز مقعد له على هذه الطاولة رغم ان حصته ستكون أصغر بكثير من الرهان الذي كانت تركيا تراهن عليه بداية الأزمة مع سوريا.
فضلاً إن الاستنزاف الاقتصادي و السياحي من جرّاء القطيعة الروسية وتبيان فشل بعض الرهانات الميدانية التي كانت وضعتها تركيا بوجه روسيا دفع البالون التركي لمعرفة حجمه الطبيعي و التراجع قبل فوات الآوان، لا بل التذلل أمام الروس وصل حد العرض عليهم استخدام قواعدهم الجوية لضرب الأهداف الارهابية في سوريا.
و الجدير بالذكر أن تراجع العلاقات التركية مع الاتحاد الاوروبي بسبب أزمة اللاجئين و كذلك مع الأمريكيين كان لها دوراً مهما في دفع تركيا لإعادة علاقاتها مع القطب العالمي الأكبر بعد امريكا أي روسيا.
في المحصلة إن تراجع تركيا المتمثل بخطواتها الأخيرة لن يكون الوحيد و الأخير، فيعتقد المحللون للشأن التركي بأن لهذه الخطوات تكملة قادمة في الأيام و الشهور القادمة قد يعتبرها البعض مفاجأة إلا انها الطريق الطبيعي و الصحيح الذي تسلكه أي دولة بعد كل المطبات و الفشل الذي منيت به رهاناتها طوال الأعوام الماضية، و إن أي تأخير قد يزيد في أزماتها و ذلك ما قد يطيح بالحلم الأردوغاني في الداخل التركي أقلّه، فهل نرى سياسة تركية جديدة اتجاه الملف السوري؟ و هل تقفل تركيا حدودها أخيراً أمام الارهابين؟ و هل يتم التواصل بين الحكومة التركية و السورية، ام أن أوان ذلك لم يحن بعد و ما زال للتركي اوراق أخرى يلعبها على هذه الساحة؟ نترك الأيام المقبلة تجيبنا عن تساؤلاتنا هذه مع العلم أن أي اقدام تركي مقبل لن يكون مفاجأً بعد الآن..
المصدر / الوقت