أيّ الأزمات هيّأت الأرضية لتدخل أمريكا في الشرق الأوسط؟
سعت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية وفترة الحرب الباردة إلى تعزيز تواجدها في الشرق الأوسط من أجل مواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق في هذه المنطقة من جهة، وإحكام سيطرتها على مقدرات دول هذه المنطقة ونهب ثرواتها من جهة أخرى.
وسعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال فترة الحرب الباردة وحتى الآن إلى إتباع سياسة تضمن لها التدخل في شؤون منطقة الشرق الأوسط وجعلها بمثابة حديقة خلفية لها، وذلك من خلال إنتهاج طريقين متباينين في الشكل والآلية، لكنهما يهدفان إلى تحقيق شيء واحد هو الهيمنة على مقدرات هذه المنطقة والسعي للتحكم بمصير شعوبها.
ويمكن تلخيص هذه السياسة في محورين أساسيين؛ الأول: الأزمات الطبيعية، والثاني الأزمات المصطنعة أو (المفتعلة).
والمثال الواضح على المحور الأول هو الحروب والنزاعات المسلحة التي شهدتها المنطقة وفي مقدمتها الحرب العراقية – الإيرانية بين عامي 1980 و1988 وحرب الكويت عام 1990.
وبالعودة إلى ما شهده الشرق الأوسط أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) خصوصاً توقيع المعاهدة المعروفة باسم (سايكس – بيكو) عام 1916 والتي نجم عنها وضع العديد من البلدان الإسلامية تحت الوصاية البريطانية والفرنسية واضمحلال الإمبراطورية العثمانية وتبلور هيكلية جديدة للمنطقة قائمة على أساس الفوضى والنزاعات والخلافات العرقية والقومية والمذهبية وبما يتفق مع مصالح الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
وبرز الدور الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تحقيق مآرب متعددة بينها القضاء على الإطروحات السياسية والأيديولوجية المخالفة أو المنافسة لسياسات واشنطن في المنطقة.
وتعزز هذا الدور بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 واستكمل حلقاته بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2011 وغزو أفغانستان والعراق من قبل أمريكا والدول الغربية الحليفة لها في عامي 2011 و2003.
وساهم الحكّام العملاء والسائرون في الركب الأمريكي في تمكين واشنطن من الهيمنة على مقدرات المنطقة من خلال منحها قواعد عسكرية في بلدانهم وإبرام إتفاقيات معها تحت مسميات حفظ الأمن والدفاع عن المصالح المشتركة. وتمكنت أمريكا من خلال هذه الذرائع من بيع أسلحة بعشرات وربّما بمئات المليارات من الدولارات للدول الموالية لها. وهذه الأسلحة لا يمكن الإستفادة منها إلاّ بموافقات مباشرة من الإدارة الأمريكية وبما يتناسب مع سياساتها وأهدافها في المنطقة.
والمحور الثاني الذي تمكنت أمريكا من خلاله من دخول وتعزيز تواجدها في المنطقة يكمن بصناعة الأزمات المفتعلة بين دول المنطقة أو ما يطلق عليه الحروب بالوكالة كما حصل في العدوان السعودي المتواصل على اليمن منذ عام ونصف العام. فهذا العدوان وباعتقاد معظم المراقبين تم بإيعاز من الإدارة الأمريكية للقضاء على المقاومة الإسلامية في اليمن التي تقودها حركة أنصار الله. وقد وفّر هذا العدوان الفرصة المناسبة لواشنطن لتعزيز تواجدها في الشرق الأوسط من خلال إنشاء المزيد من القواعد العسكرية وعقد صفقات ضخمة لبيع الأسلحة للحكومات الموالية لها في المنطقة.
واستغلت الإدارة الأمريكية الأزمة السورية والأوضاع المضطربة في العراق لإرسال المزيد من قواتها إلى الشرق الأوسط وتمكنت من خلال دعمها للجماعات الإرهابية من تعميق جراحات المنطقة خدمة للمشروع الصهيوأمريكي المسمى “الشرق الأوسط الجديد أو الكبير” الذي طرحته واشنطن بعد إحتلالها للعراق عام 2003 بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي لم تتمكن واشنطن من إثباتها وتقديم الأدلة القانونية على صحة مزاعمها بهذا الخصوص حتى هذه اللحظة.
في هذا السياق تشير الكاتبة الكندية “ناعومي كلاين” في كتابها “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث” الذي صدر عام 2009 إلى ما أسمته خيوط تحريك الدمى وراء أزمات وحروب الشرق الأوسط، حيث يقوم المذهب الرأسمالي على إستغلال الكوارث، سواء كانت إنقلاباً، أو هجوماً إرهابياً، أو إنهياراً إقتصادياً من أجل تمرير سياسات ترفضها شعوب المنطقة في الحالة الطبيعية.
ومن الأساليب الأخرى التي إعتمدتها أمريكا للتغلغل في المنطقة توظيف ما يسمى “مفاوضات التسوية” بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، وكذلك محاولات الخداع المتكررة التي لجأت لها بحجة نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان في المنطقة.
كما عمدت واشنطن وفي مراحل زمنية مختلفة إلى التخلي عن الأنظمة الديكتاتورية الموالية لها في المنطقة كنظامي الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي أثناء أحداث ما عرف بـ “الربيع العربي” لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية تحت غطاء الدفاع عن الديمقراطية وفق رؤاها ومن خلال تغليف الغايات بغطاء الدبلوماسية الناعمة المدعومة بسياسات التلويح باللجوء إلى القوة في حال عدم الإنصياع للإرادة الأمريكية.
أخيراً تجدر الإشارة إلى أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض رفعت من مستوى إهتمامها بالشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الأخيرة وتحديداً بعد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وخسارتها لأحد أهم عملائها في المنطقة “الشاه المقبور” وذلك من أجل تطويق إيران ومنعها من أداء دورها المبدئي في دعم محور المقاومة الذي يتصدى للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة.
المصدر / الوقت