روسيا، اللغز الأمني والدور الفاعل في الملف السوري
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينات القرن الماضي شعرت روسيا بخطورة الوضع الأمني الذي بدأ يلاحقها نتيجة عوامل متعددة يمكن إجمالها بما يلي:
– تراجع النفوذ الروسي بشكل ملحوظ أمام النفوذ الأمريكي في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية في شتى أنحاء العالم ومن بينها منطقة الشرق الأوسط.
– ضعف الحكومة في عهد “بوريس يلتسين” أول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي, حيث شهدت البلاد انتشار الفساد والانهيار الاقتصادي الهائل، والكثير من المشاكل السياسية والاجتماعية.
– الإجراءات السياسية والعسكرية التي اتخذتها الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا لمحاصرة روسيا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.
وقد أثارت هذه العوامل وغيرها حفيظة المجتمع الروسي برمته خصوصاً نخبه الثقافية والسياسية والإعلامية، ما أدى إلى زيادة الشعور الوطني والقومي بضرورة استعادة المكانة السابقة للبلاد التي كانت تتمتع بها طيلة العقود التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي.
وقد وجهت انتقادات شديدة لتصرفات يلتسين السياسية والاقتصادية باعتبارها ساهمت بشكل كبير في إضعاف روسيا أمام الغرب الذي سعى لتوظيف هذه الظروف لصالحه وتقوية نفوذه في مختلف أنحاء العالم.
وبعد توسع حلف شمال الأطلسي “الناتو” نحو الشرق خلال تسعينات القرن الماضي والذي ظهر بشكل واضح عام 1999 في دعم الناتو لـ “ألبان كوسوفو” ضد صربيا التي كانت حليفة تقليدية لروسيا في تلك الفترة، بدت موسكو أكثر قلقاً من أي وقت مضى إزاء نوايا الغرب وخططه الرامية لتقليص نفوذها سواء في شرق القارة الأوروبية أو باقي مناطق العالم.
ولازال الكثير من الشعب الروسي لاسيّما نخبه الثقافية والإعلامية يحملون خواطر سيئة عن فترتي حكم الرئيسين “ميخائيل غورباتشوف” آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي و “بوريس يلتسين” ويتهمونهما بالمساهمة في إضعاف البلاد خدمةً للمصالح الغربية. ولهذا السبب يعتقد معظم المراقبين بأن أحد أسباب محبوبية الرئيس الحالي “فلاديمير بوتين” وتزايد شعبيته في أوساط الشعب الروسي تعود في الحقيقة إلى نجاحه في استعادة مكانة روسيا الإقليمية والدولية وتمكنه من مواجهة مخططات الغرب الرامية إلى الاستحواذ على مقدرات العالم لاسيّما في الشرق الأوسط، لما لهذه المنطقة من أهمية حيوية واستراتيجية في كافة الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت روسيا تشعر بعدم الأمن والاستقرار هو إخفاق جيشها في القضاء على الانفصاليين الشيشانيين بين عامي 1994 و1996، ووصل الأمر إلى أن الكثير من الروس وصفوا هذا الإخفاق بأنه وصمة عار في جبين بلادهم، وكاد الأمر أن يتسبب أيضاً في انهيار روسيا كما حصل في انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومما زاد في قلق روسيا وشعورها بالتهديد الأمني هو انضمام كل من بولندا وجمهورية التشيك وهنغاريا (المجر) إلى حلف “الناتو” في آذار/مارس عام 1999 بعد أن كانت هذه الدول ضمن نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق أو ما يعرف بـ “المعسكر الشرقي”[1] في مقابل “المعسكر الغربي”[2] الذي تتزعمه أمريكا.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل قرر “الناتو” في نيسان/أبريل من نفس العام (1999) توسيع نطاق نفوذه نحو الشرق عبر السماح لقواته بتنفيذ إستراتيجية جديدة تتضمن القيام بعمليات عسكرية خارج حدود الحلف وتحديداً في دول البلقان ومنطقة القوقاز قرب الحدود الغربية والجنوبية الغربية الروسية.
وفي عام 2004 انضمت كل من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلى الناتو، وهذه الدول الثلاث كانت أيضاً في السابق ضمن حدود الاتحاد السوفيتي. وقد ساهم هذا الأمر كذلك بزيادة الشعور بالخطر الأمني الخارجي لدى روسيا لاسيّما في أوساط نخبها السياسية والعسكرية والإعلامية.
وبلغ الشعور بهذا الخطر حدّاً لدى القيادة الروسية إلى المستوى الذي جعل الرئيس الحالي “فلاديمير بوتين” ينتقد بشدة وبشكل علني ومباشر السياسة الخارجية الأمريكية وسعيها للتفرد بالقرارات الدولية والاستحواذ على مقدرات العالم. ودعا بوتين خلال المؤتمر الدولي الأمني الذي عقد في شباط/فبراير عام 2007 بمدينة “ميونخ” الألمانية إلى إنهاء النظام الأحادي القطبية وإعادة التوازن إلى المحيط الدولي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. كما هدد بوتين بمواجهة التمدد العسكري الأمريكي في مختلف مناطق العالم في حال لم تكف واشنطن عن مواصلة هذا النهج.
وجاء في خطاب بوتين كذلك إنّ بلاده ستلجأ لضرب بولندا وجمهورية التشيك بأسلحة نووية في حال سمحتا لأمريكا بنشر صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية الروسية على أراضيهما، الأمر الذي عدّه المراقبون بداية لمرحلة جديدة وخطرة من المواجهة بين القطبين الروسي والأمريكي.
ولكن مع ذلك يعتقد الكثير من المراقبين بأن هذه المواجهة لا تتعدى في خطورتها مرحلة الحرب الباردة لعدّة أسباب بينها افتقاد البعد الأيديولوجي، وبمعنى آخر إنّ روسيا لا تدافع حالياً عن الفكر الشيوعي الذي كان يتبناه الاتحاد السوفيتي في السابق، بالإضافة إلى وجود أرضية مشتركة للتنسيق والتعاون بين الجانبين في العديد من المجالات كما حصل في الاتفاق على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ويحصل حالياً فيما يتعلق بالأزمة السورية، حيث توصلت موسكو وواشنطن إلى اتفاق لإقرار هدنة مؤقتة في سوريا، وعقد مؤتمرات عدّة في عواصم أوروبية لإيجاد تسوية سياسية لهذه الأزمة.
ولولا مشاركة روسيا بقوة في الملف السوري سواء على الصعيد السياسي أو العسكري لما كانت أمريكا ترضخ للحلول السياسية لهذا الملف. كما أدركت روسيا أيضاً بأن عودتها كلاعب مؤثر وفاعل في الساحتين الإقليمية والدولية يتطلب منها إبعاد خطر الناتو عن حدودها الغربية وإشغاله في مناطق أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن أراضيها.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق