التحديث الاخير بتاريخ|السبت, نوفمبر 16, 2024

زيارة الأربعين المليونية مظهر لتبلور قوة إقليمية جديدة 

تحظى زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام التي يشارك فيها ملايين الناس من أتباع مختلف المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية من مختلف أنحاء العالم في كل عام بأهمية خاصة لما تتضمنه من أبعاد دينية وثقافية واجتماعية ونفسية، فضلاً عن الأبعاد السياسية والاقتصادية التي تلقي بظلالها الإيجابية على عموم شعوب المنطقة والعالم.

وقبل الخوض بتفاصيل هذه الأبعاد لابدّ من الإشارة أولاً إلى أن هذه الزيارة التي يشارك فيها ما بين 10 – 20 مليون زائر سنوياً قد إكتسبت شهرة عالمية خلال الأعوام العشرة الأخيرة لما تتصف به من ميزات كثيرة ومهمة قد أبهرت جميع المراقبين، خصوصاً وإنها تجري دون أي تدخل حكومي أو رسمي سوى الدعم الأمني والصحي الذي تقدمه الحكومة العراقية، في حين تقوم الهيئات والمواكب الحسينية بتقديم مختلف أنواع الخدمات الغذائية وجميع مستلزمات الزيارة طلباً للأجر والثواب من الباري تعالى ووفاءً للرسول الأكرم (ص) وأهل بيته الطاهرين والمبادئ والقيم العظيمة التي ضحّى من أجلها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه الميامين في واقعة عاشوراء الخالدة.

والأمر الآخر الذي ينبغي الإشارة إليه هو سلمية مراسم الزيارة الأربعينية، رغم محاولات الجماعات الإرهابية لتنفيذ عمليات إجرامية ضد الزوار والتي أودت بحياة الكثير منهم خلال السنوات الماضية، دون أن تتمكن من ثني محبي الإمام الحسين عن المواظبة في المشاركة بهذه الزيارة وبأعداد أكبر وعزيمة راسخة على تحمل جميع المصاعب والتحديات التي قد تواجههم أثناء مسيرهم إلى كربلاء المقدسة حيث المرقدين الطاهرين للإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام. ومعظم هؤلاء الزوار يأتي مشياً على الأقدام من مسافات بعيدة جداً قد تصل إلى مئات الكيلومترات.

والميزة الأخرى التي تتميز بها زيارة الأربعين هي التلاحم الإيماني والأخوي بين جميع الزائرين على اختلاف إنتماءاتهم المذهبية والقومية وتنوعهم الثقافي والديني، لاعتقادهم بأن مبادئ وقيم وأهداف الثورة الحسينية كانت وما زالت لجميع بني الإنسان دون تمييز، وستبقى كذلك على مرّ الزمن.

وهذا التجمع المليوني إنما يحصل نتيجة الاندفاع الذاتي والشعور العميق بعظمة الثورة الحسينية وأهمية المحافظة على ثوابتها في نصرة الحق والدفاع عن المظلومين والتصدي للباطل والطغيان في كل زمان ومكان، وهو بلا أدنى شك مدعاة للتأمل والبحث عن أسرار هذا الاندفاع الذي يرى فيه الكثير من المراقبين بأنه يمثل قوة حقيقية وعظيمة لدعم الأمن والسلم المجتمعي على المستوى الإقليمي والدولي.

ويعتقد الكثير من المحللين أيضاً بأن زيارة الأربعين باتت تمثل مظهراً وحدوياً لا نظير له، حيث تشارك فيها كافة الطوائف والملل والقوميات من شتى أنحاء الأرض، وتستبطن مقومات رائعة لمواجهة الفكر التكفيري المتطرف الذي يستهدف جميع شعوب الأرض من خلال الجماعات الإرهابية التي تتبنى هذا الفكر المخرب والهدّام.

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أن الكثير من أتباع الديانات المسيحية والصابئية وحتى البوذية والزرادشتية والإيزدية يشاركون في هذه المراسم. كما تقوم حاضرة الفاتيكان بإرسال وفد للسير على الأقدام لمسافات طويلة مع زوار الأربعين للتعبير عن حبهم للإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الطاهرين الذين ضحّوا بأرواحهم وبكل غال ونفيس لنصرة الحق والعقيدة والمبدأ على طريق الثورة الحسينية.

وهناك في الحقيقة بعدان مهمان في ثقافة الزيارة الأربعينية؛ الأول هو البعد الديني العقائدي الذي يتلخص في البناء الفوقي لثقافة الزيارة المتمثل بالنصوص الإسلامية الواردة في هذا المجال والتي تحث وتؤكد بشكل قاطع على أهمية الزيارة التي صارت بحق أكبر التجمعات الدينية في جميع أصقاع العالم وأكثرها تنوعاً من حيث الانتماءات والقوميات. والثاني هو البعد السياسي المتمثل بعدم الرضوخ والركون للقوى المستكبرة والبراءة من القتلة والإرهابيين ورفض كل أنواع الظلم والظالمين والمستبدين، وذلك من خلال إستلهام الدروس والعبر من الثورة الحسينية التي جسدت بأروع الملاحم والصور ضرورة الدعوة للحرية والعدل والمساواة وأهمية نصرة القيم والمبادئ التي جاء بها الدين الحنيف لإنقاذ البشرية من التجبر والاستكبار و الاستهانة بمقدرات الشعوب من قبل القوى المتسلطة في العالم.

كما إنّ التلاقح الفكري والتواصل المعرفي الذي يعتبر أحد أهم الركائز التي بنيت عليها الحضارات في شرق الأرض وغربها وسبب أساس في التعايش السلمي قد توفر بشكل واضح في زيارة الأربعين بما يكفل لكل زائر أن يخرج بحصيلة معرفية وفكرية تساهم بشكل كبير في رفع مستوى التوائم المجتمعي بين مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات في حال تم تكفل ورعاية هذه الثمرة بالشكل المطلوب.

ومن مميزات زيارة الأربعين تكريس ثقافة العمل التطوعي التي أسهمت هي الأخرى في بناء الكثير من الدول وتقدمها خصوصاً، وإن هذه الزيارة تعمق التوجه الديني والعاطفة الفكرية الباعثة على العمل التطوعي بشكل يفوق جميع الإمكانات المؤسساتية العالمية في هذا المجال.

فعلى مدى مئات الكيلومترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى كربلاء ولعدة أيام تجد الجميع في حركة متواصلة يبذلون جهوداً حثيثة وينفقون أموالاً طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمر ودون أي أجر مادي ودنيوي في قبال ذلك العطاء السخي الذي أذهل العالم.

كما تكرس الزيارة ثقافة التكافل الاجتماعي وهي قيمة إنسانية قبل أن تكون مبدءاً دينياً، إذ إنّ من أهم السمات التي يكتسبها الإنسان في هذه الزيارة هي سمة العطاء الذي يورث بدوره خصالاً أخلاقية وإنسانية حميدة كثيرة في مقدمتها الكرم والجود والإيثار وتغييب البخل والأنانية والحب المفرط للذات والقضاء على التمييز العنصري على أساس اللون والعرق والجنسية والإنتماء الفكري والديني، إلى جانب تكريس التواضع والتذكير بالأخوة الإنسانية عامة والإسلامية خاصة.

فزيارة الأربعين تمكنت من إذابة جميع الفوارق العنصرية بين الحشود المليونية الزاحفة إلى كربلاء، إذ تجد فيهم شتى الجنسيات والقوميات والأديان والاتجاهات الفكرية وهم يسيرون في أجواء مشحونة بالأخوة حتى يبلغ ذلك ذروته عندما تجد هذه القوميات والأعراق والألوان يفتخر كل منها بأن يكون خادماً للآخر بروح ملؤها المحبة والعطاء.

ولايخفى أن زيارة الأربعين تكتنز قيماً ومبادئ إجتماعية ودينية وثقافية وسياسية أخرى، ولكن يجب التأكيد هنا على أن الحشود المليونية التي تتدفق بشكل تلقائي نحو كربلاء المقدسة وفيهم الطفل والمرأة والمعوّق لإحياء هذه الزيارة متجشمين عناء الطريق ومخاطره بعفوية العواطف والحماس المنقطع النظير تمثل بحق ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل بعد أن أضحت حدثاً عالمياً ذو أبعاد متعددة في كافة جوانبه سواء التي ذكرتها أو التي لم أذكرها حيث لا يتسع المقام لذلك. وما أحوج البشرية إلى هذا النموذج المتكامل لمعالجة جميع ما يختلج في نفوس أبنائها في كافة الأبعاد. وتعد هذه الزيارة في الحقيقة محطة تعبوية تنهل من معينها الأجيال عبراً ودروساً للتحرر من ربقة قيود الحضارة المزيفة ذات الطابع المادي والمصالح الضيقة بما تحمله من مبادئ إنسانية وقيم تخدم المسيرة البشرية التي تنشد السلام والأخوة في ربوع المعمورة بغض النظر عن الطابع الجغرافي والقومي وحتى الديني.

وفيما يتعلق بمعطيات زيارة الأربعين السياسية وما يترتب عليها من أبعاد وسياقات إستراتيجية وجيوسياسة في منطقة ملتهبة بالأزمات، لابدّ أن تؤخذ هذه المعطيات بالحسبان من قبل أصحاب القرار الدولي ومراكز الدراسات والبحوث العالمية التي تتطلع إلى هدف سامي بتحقيق العدالة للبشرية المعذبة، وهذا البعد يكشف لنا حقيقة عالمية النهضة الحسينية التي عرفها الشرق والغرب بفضل التقدم في تقنية الاتصالات ووسائل الأعلام، كما حدث تماماً بالنسبة للدين الإسلامي الذي وصل إلى كافة المجتمعات.
المصدر / الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق