الانقسامات الاجتماعية وأزمة الأمن القومي في تركيا
تعاني تركيا في الآونة الأخيرة من انقسامات اجتماعية شديدة، حيث أن الهوة بين التوجهين الديني والعلماني تزداد عمقا مما يؤثر على مسار الأحداث الاجتماعية والانسجام السياسي سلبا بالنظر لوجود هوة أخرى في البلاد وهي الانقسام القومي بين الأتراك والأكراد. ومنذ قيامها عاشت الجمهورية التركية الكثير من الأحداث والتطورات على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ ويعد هذا البلد جسرا رابطا بين آسيا وأوروبا، وعلى مدى السنوات الماضية عاشت تركيا ظروفا أمنية متغيرة. فمرت بفترات من الاستقرار واستباب الأمن، وبفترات من التوتر الأمني، ومنذ استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة، اتخذت البلاد مسارا جديدا في السياسة الداخلية والخارجية.
وأدى النمو الاقتصادي، الاصلاح السياسي، الترشح لعضوية الاتحاد الأوروبي والدعاية الاعلامية الغربية الى اعتبار تركيا نموذجا للعالم الإسلامي. رغم ذلك، إثر حصول التطورات السريعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والثورات في المنطقة غرقت الحكومة التركية في حلم قيادة البلدان الإسلامية خلال العصر الجديد وانجذبت نحو دوامة الأوهام التي كلفتها كثيرا. إن المقاربة التركية الخاطئة في مجال السياسة الخارجية والتي نتجت من فكرة العثمانية الجديدة كانت خطأ استراتيجيا كبيرا وقعت فيه تركيا.
فكان الأمر مكلفا لتركيا على الصعيد الدولي والمحلي، مما دفع المعارضة الى الخروج في احتجاجات كان أشهرها المظاهرات الشعبية بمتنزه كزي بإسطنبول. وبعد ذلك أدت فضائح فساد المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى الى ضرب سمعة حزب العدالة والتنمية؛ وتوج ذلك بالمحاولة الانقلابية في عام 2016 والتي تسببت بأضرار حقيقية لسمعة تركيا سياسيا.
ومن هذا المنطلق اضطرت الحكومة لممارسة ضغوط ممنهجة والحد من الحريات، حيث منحت الحكومة الاجهزة الأمنية المزيد من الصلاحيات والنفوذ لكي تتحرك ضد حليفها السابق أي فتح الله غولن و”جماعة الخدمة” التي وصفتها بحكومة الظل. وقد أدى هذا الأمر بصورة تدريجية الى الضغط على وسائل الاعلام فيما حد الرئيس التركي اردوغان من استقلال جهاز القضاء واقترح تغيير نظام الحكم الى النظام الرئاسي؛ كما أوقفت الحكومة تنفيذ الخطط المتعلقة بالانفتاح على العلويين وحل القضية الكردية.
وأدت المواقف المشار إليها الى زعزعة الأمن والاستقرار في تركيا، حتى أصبح التوتر في العلاقات مع دول الجوار، التدخل الواضح في شؤون سوريا والعراق، الأزمات السياسية والتحديات الاقتصادية، الانفجارات الدموية، المواجهات المسلحة مع المعارضين الاكراد، تهديد الحريات المدنية والتضييق عليها، اعتقال المفكرين والصحفيين المعارضين، تصفية الحسابات السياسية مع الشخصيات ومؤسسات غولن، أزمة المشردين، تراجع الاستثمار والسياحة وغيرها، أصبح من المشاكل المستمرة في تركيا.
وفي هذا الصدد تعد انقسامات المجتمع من التحديات الأمنية في تركيا، ويعاني المجتمع التركي حاليا من عدة انقسامات رئيسية، بعضها نشيط وبعضها خامل، وفيما يلي نشير إلى أهم هذه الانقسامات:
1.الانقسام القومي: يعد الانقسام بين القومية التركية والكردية أهم انقسام قومي في تركيا، وقد اشتد هذا الانقسام خلال السنوات الماضية وأدى الى ظهور جماعة “بي كا كا” مما أدى الى خسائر اقتصادية بالإضافة الى انعدام الأمن والاستقرار.
2.الخلاف الديني: تتجسد هذه المشكلة في تركيا بشكلين، من جهة الخلاف بين المتدينين والعلمانيين، ومن جهة أخرى الخلاف بين أهل السنة والعلويين. وتعمل هذه الخلافات على شق صف المجتمع التركي. وعلى مدى السنوات الماضية شهدت البلاد خلافا بين المتدينين والعلمانيين، وهذا ما أدى الى تأرجح السلطة بين الفريقين عدة مرات؛ ومن ناحية أخرى كلما استلم المتدينون السلطة ازداد عمق الهوة بين أهل السنة والعلويين.
3.الفوارق الطبقية: في تركيا وكما في باقي البلدان يمكن تقسيم المجتمع الى الأغنياء، الطبقة المتوسطة والفقراء، وفي السنوات الماضية ازدادت الفوارق بين هذه الطبقات الثلاث. وساهم النمو الاقتصادي غير المتوازن في تعميق حجم الهوة بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، كما ظهرت طبقة متوسطة جديدة من أشخاص أغلبهم بعيدون عن الخطاب الإسلامي للحكومة ولا يتفقون معه؛ وحاليا تتعاظم التأثيرات السلبية للنمو الاقتصادي احادي الجانب في تركيا، حيث يزداد الفقر وتتعمق الهوة بين طبقات المجتمع فيما تغيب العدالة الاجتماعية أكثر وأكثر.
كما أن حجم الهوة بين المدينة والقرية ازداد كثيرا في السنوات الماضية. وبناء عليه يعيش أبناء الشعب التركي في 14 محافظة أوضاعا اقتصادية جيدة ويحصلون على مدخول جيد ويمكن مقارنة أوضاعهم مع المدن المتقدمة في العالم، في حين يعيش أبناء الشعب في 27 محافظة تركية أخرى ظروفا اقتصادية سيئة.
4.الفجوة بين الأجيال: ظهرت في تركيا فجوة كبيرة بين الأجيال، حيث فارق العمر الكبير بين الجيل الشاب والجيل المسن أدى الى ظهور رغبات وميول مختلفة. وعلى الرغم من أن هذا الخلاف لم يكن مؤثرا جدا في المجتمع التركي، إلا أن الاحتجاجات والدور الذي لعبه الشباب فيها أثبتا ان الفجوة بين الأجيال في تركيا قد تتحول الى خلاف هام آخر يقسم المجتمع.
في النهاية، يبدو أن المجتمع التركي يعاني في الآونة الأخيرة من انقسامات اجتماعية شديدة، حيث أن الهوة بين التوجهين الديني والعلماني تزداد عمقا مما يؤثر على مسار الأحداث الاجتماعية والانسجام السياسي سلبا بالنظر لوجود هوة أخرى في البلاد وهي الانقسام القومي بين الأتراك والأكراد.
المصدر / الوقت