هذا ما تعنيه الآستانة استراتيجياً: مشهدٌ يتخطى زواريب الأزمة السورية؟!
للقارئ بعينٍ استراتيجية، رؤية مختلفة لمشهد الآستانة. حيث يتخطى بما يعنيه من دلالات، زواريب الأزمة السورية. وهو ما تُثبته عدة مسائل أهمها نتائج المشهد والتي تنعكس على الصورة السياسية إقليمياً ودولياً. فكيف يمكن توصيف مرتكزات الواقع الجديد في الشرق الأوسط؟ وما هي أسباب ذلك؟ وأي صورة يمكن رسمها للإقليم والعالم اليوم؟
واقعٌ جديدٌ في الشرق الأوسط عنوانه حضور ضعيف لأمريكا وحلفائها!
يمكن فهم واقع المنطقة الحالي بعد ما جرى في الآستانة على الشكل التالي:
أولاً: خرجت الآستانة بمشهدٍ جديدٍ في المنطقة أنهى صراع الأقطاب وأسقط نهائياً قطبية أمريكا في الشرق الأوسط. وهو ما دلَّت عليه مسألة الغياب الأمريكي على الرغم من رأي البعض بأن الحضور التركي يُمثِّل واشنطن. حيث تُعتبر الأزمة السورية ومنذ بدايتها، آخر محاولة لأمريكا من أجل القضاء على محور المقاومة وإبعاد روسيا والصين عن الشرق الأوسط. فيما كانت النتائج اليوم مُعاكسة تماماً.
ثانياً: أثبتت الآستانة ضعف أمريكا وحلفائها. حيث فشلت الدول الخليجية والكيان الإسرائيلي من القيام بأي دور. فيما سقطت وانتهت سياسة “الديمقراطية الإرهابية”، والتي كانت تعتمد على الإرهاب وإخراجه بمظهر الديمقراطية. وهو ما كانت تسعى له أمريكا وحلفاءها العرب وتركيا والغرب والكيان الإسرائيلي، عبر إيجاد السبل لشرعنة أي دور سياسي داخلي في سوريا لجماعات إرهابية في الواقع سياسية في المظهر.
لماذا؟ أجوبة مُختصرة
أولاً: نجحت إيران في البقاء على مواقفها الثابتة. والتي يفهمها الصديق والعدو. حيث لم تتراجع طهران فيما يخص الأزمة السورية، عن أيٍ من مبادئها في العمل السياسي الدولي. خصوصاً أنها تنطلق من أن الدولة السورية والتي يرأسُها الرئيس الأسد هي جزء من محور المقاومة، وحليف استراتيجي قديم. الأمر الذي ساهم بفضل هذا الثبات الاستراتيجي، والحكمة في التكتيك الظرفي، لإنجاح وإخراج المفاوضات بشكل يتماشى مع أي مظهر سياسي دولي قد تغيب عنه بعض الصفات التي تخص طرف دون آخر. وهنا فإن وصول ما يُسمى بالمعارضة السورية إلى مرحلة الرضوخ، لم يكن ليحصل لولا إصرار الطرف الإيراني والسوري تحديداً على إنهاء عدة جبهات في الميدان السوري لصالح الدولة والشعب. مما عزَّز أوراق الميدان لمحور المقاومة خصوصاً بعد الانتصار في معركة حلب التي سعى البعض لاستبعاد أولويتها، مما جعل أطراف المعارضة في وضع يتطلب الرضوخ لطاولة المفاوضات ضمن الشروط التي حصلت والتي غاب عنها الأمريكي تخطيطاً وحضوراً، ولاحقاً تنفيذاً.
ثانياً: نجحت روسيا في استثمار حضورها الميداني في سوريا لإعادة اعتبارها كطرفٍ دولي. وهو ما حصل نتيجة الجهود المشتركة السورية الإيرانية بالإضافة إلى إنجازات حزب الله اللبناني. الأمر الذي قلب موازين دولية كانت حاكمة، وأفضى لجعل روسيا عرّابة المفاوضات ضمن المسار الذي واكب الأزمة السورية. في حين كانت آخر النتائج الاستحواذ الروسي الإيراني على دور محوري في المفاوضات إلى جانب تولي مسؤولية مراقبة وقف اطلاق النار وذلك عبر آلية تنفيذية يجري تحضيرها ميدانياً.
ثالثاً: فشلت تركيا في تحقيق أي هدف، يتعلق في منح مجموعاتها الإرهابية أي فرصة لتحصيل أي دور عملي مؤثر. بل إن هذه الأطراف التي ظهرت بمظهر المُتحفِّظ على المشهد الجديد، كانت راضية سراً بما يجري أمام واقع يعني نهايتها الحتمية. في حين لن يستفيد الطرف التركي من محاولته اللعب على حبال السياسة الإقليمية وتنصيب نفسه كطرف وسط بين قوى التحالف الرباعي الأمريكي الأوروبي الاسرائيلي الخليجي من جهة، والتحالف الثلاثي الإيراني الروسي السوري من جهة أخرى.
ماذا في المشهد الجديد إقليمياً ودولياً: صورة واضحة
عدة إشارات واضحة لرسم الصورة الجديدة:
أولاً: عادت روسيا إلى الواجهة العالمية وبقوة، في حين عادت الصين ولو بشكل أقل وضوحاً إلا على الصعيد الاقتصادي. فيما دخل الطرفين سياسة الشرق الأوسط ومن البوابة الإيرانية.
ثانياً: باتت إيران طرفاً ضرورياً للجميع. حيث أصبحت حاجة واقعية تتخطى الظروف الحالية. ليس بسبب حلفها مع روسيا، بل لأسباب أقدم تتعلق بزعامتها محور المقاومة وقدرتها على التأثير في سياسة العديد من الدول المحورية في الشرق الأوسط كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، بالإضافة إلى اتباعها نهجاً متميزاً فيما يخص السياسة الخارجية.
ثالثاً: تغَّيرت الحسابات الإقليمية والدولية للأطراف، فمع انتقال إيران إلى مُربَّع اللاعبين الدوليين، انتقل حزب الله إلى مُربَّع اللاعبين الإقليميين. وهو ما يعني معادلات جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي من جهة والعربي الغربي – الأمريكي على صعيد شعوب المنطقة من جهة أخرى.
رابعاً: عادت سوريا للعب دور مركزي وبشكل أقوى على الصعيدين الإقليمي والدولي. في حين يجب تقدير جهود الشعب السوري الذي لم يغرق في أي فتنة أو يقبل أي تقسيم.
خامساً: أحدثت الأزمة السورية بنتائجها تحوُّلاً في السياسة الدولية لأمريكا. وهو ما ظهر من خلال نتائج الانتخابات والتي وصل فيها دونالد ترامب حاملاً شعار تحالفات جديدة تبدأ بروسيا.
سادساً: انتقل الحديث من مستقبل أمن سوريا إلى مستقبل أمن الكيان الإسرائيلي. والذي بات أمام معادلات إقليمية جديدة يبدو واضحاً فيها ضعف أمريكا وحلفائها في الشرق الأوسط. في ظل علاقات متدهورة مع الغرب وتخبُّط داخلي يُهدد وجود الكيان.
لم يكن مشهد الآستانة مهماً بقدر ما عكسه من نتائج وطبعه من دلالات. فالآستانة هي بداية ترجمة لنظام إقليمي ودولي جديد انتقل من إشراك الأمريكي راضخاً للعديد من الأطراف إلى مرحلة رضوخ الأمريكي لحالته بعيداً عن الشراكة. وهو ما يعني بدلالاته الكثير.
المصدر / الوقت