العلاقات التركيّة السعوديّة: “أستانة” بوابة الخلافات؟
ألقت التفاهمات الإقليمية بظلالها على الأزمة السوريّة. لم يعد خافياً أن التفاهمات الثلاثيّة بين طهران وموسكو وأنقرة والتي نتج عنها مؤتمر “الأستانة” الذي وضعت أحجاره الأساس في اجتماع موسكو بين وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا قبل عدّة أسابيع، غيّبت دور العديد من الدول عن الأزمة السورية، وفي مقدّمتها السعودية.
أجبر نصر حلب الاستراتيجي، الذي أسقط خيار إسقاط النظام في سوريا، أجبر أنقرة على تغيير مواقفها، والانسحاب تدريجيّاً نحو الجانب الروسي في ظل انشغال واشنطن بالمرحلة الانتقالية، وإعلان ترامب عن استراتيجيّة مخالفه لسلفه أوباما، ما كرّس ابتعاد تركيا عن الحليف السعودي، وتغيير أولويات الأولى من “إسقاط النظام” إلى محاربة الأكراد وداعش.
الموقف التركي أثار حفيظة الرياض التي أعلن سفيرها في أنقرة بن سراج مرداد أن تحول الموقف التركي تجاه سوريا يعد نموذجا آخر من الغدر التركي منذ الحكم العثماني للدول العربية، والذي يأتي الآن وفق المصالح التركية الجديدة، حسبما ذكرت صحيفة “زمان” التركية اليوم الثلاثاء .
لم يكتف السفير الذي غادر تركيا قبل ثلاثة أسابيع بعد انتهاء فترة عمله، بذلك، بل أوضح في مقابلة مع “بي بي سي” أن “تركيا قامت بتحويل الانتفاضة الشعبية في سوريا قبل 6 سنوات لمعارضة مسلحة واحتضنت الفصائل المناهضة للرئيس”، وفق وصفه، مشيراً إلى أنّ أنقرة أدارت ظهرها للإنجازات الأخيرة فى سوريا وتركتها تدمر وتباد وهي الآن مسؤولة عن الخسائر البشرية للمدنيين وملايين المشردين واللاجئين في سوريا.
ورغم النفي السعودي لتصريحات السفير ووصفها بالمزعومة، ومحاولات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الحديث عن العلاقات بين البلدين و أن التنسيق بين المملكة وتركيا “قائم ومتين جدا”، إلا أن خبراء يؤكدن الانزعاج السعودي من الموقف التركي، لاسيّما بعد غياب شبه تام للفصائل التي تُحسب على السعودية، كفصائل “الجبهة الجنوبية” عن مؤتمر “أستانة” في ظل سيطرة واضحة للفصائل التركيّة.
البعض ذهب أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن اقتتال الفصائل المسلّحة في ريفي إدلب وحلب، تأتي نتيجةً للخلاف السعودي التركي اذا تعبّر جبهة فتح “الشام” التي تركز على إسقاط النظام عن الموقف السعودي، في حين تعبّر الفصائل الأخرى كـ”أحرار الشام” وغيرها عن الموقف التركي الذي يركّز حالياً على درء خطر داعش عن العمق التركي وإزالة الخطر الكردي في إقامة دولتهم.
العتاب السعودي لم يكن ليحصل لولا تراجع نفوذ الجماعات المعارضة المسلحة التي كانت تعول عليها، إلى جانب قطر، بغية إسقاط الرئيس الأسد، الذي كان مطلباً تركيّاً سعودياً حتى انتصار حلب. حينها أعلنت تركيا تراجعها عن مواقفها السابقة من الرئيس السوري بشار الأسد ودخولها في تفاهمات مع روسيا وإيران لحلحلة الأزمة عبر الأطر السياسية، وليس آخرها مؤتمر “أستانة”.
تطوّرات الموقف السعودي
السعودية تقف اليوم على مفترق طرق فإما اللحاق بتركيا، أو البقاء على مواقفها وتعزيز الدور العسكري لفصائلها في الأزمة السوريّة، رغم ترجيح العديد من الخبراء لحصول تراجع في الموقف السعودي، خاصّة أنها باتت الدولة شبه الوحيدة التي تصر على رحيل الرئيس الأسد كشرط مسبق.
تعي الرياض جيّداً أن الوقوف على الأطلال لا ينفعها أبداً، وهذا ما يفسّر كلام الجبير بالأمس عن تقارب بلاده مع تركيا، وبالتالي هناك من يتحدّث عن تحوّل في المواقف السعودية خاصّة بعد تصريحات صادرة عن كبار المسؤولين والدبلوماسيين السعوديين تتعلّق بـ”الحل السياسي” وهو الذي كان خطّاً أحمراً عريضاً في المرحلة السابقة. أدركت الرياض أن الظروف الدولية، الأمريكية والروسيّة، والإقليمية، الإيرانية والتركية، جعلت موقفها ضعيفاً في الأزمة السوريّة، ما يحتّم عليها تعديل “استراتيجيتها” في سوريا، كما حصل مع تركيا.
دول عدّة أبدت اهتمامها بالاتفاقات الثلاثية بين إيران وروسيا وتركيا، وأعلنت رغبتها بالانضمام إلى تلك الاتفاقات، وفق ما أوضح مصدر دبلوماسي لوكالة “سبوتنيك” الروسيّة، من بينها أمريكا وقطر والسعودية. الانضمام السعودي يحتاج، كما الأمريكي والقطري، يحتاج إلى موافقة إيرانيّة مسبقة، ما يحتّم على الرياض إجراء محادثات مسبقة مع طهران. هناك مصادر تحدّثت عن أن الرسالة التي بعث بها مجلس التعاون الخليجي إلى إيران عبر النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير خارجية الكويت الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، الذي وصل صباح أمس الأربعاء إلى طهران تأتي في هذا السياق.
السعودية حاولت في الفترة الأخيرة التحدّث عن غياب وتهميش الدور العربي في الأزمة السورية لصالح روسيا وتركيا وإيران، متجاهلةً أنّها أوّل من همّش الدور العربي إثر تعطيل دور الجامعة العربيّة والتوجّه، منذ بداية الأزمة، إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة بغية استصدار قرار لإسقاط النظام. لم يكن ليحصل هذا الحديث لولا الامتعاض السعودي من المستجدات القائمة، وتحديداً التركيّة، في الأزمة السوريّة.
بعيداً عن تطوّرات الموقف السعودي ومصير العلاقة بين البلدين، ما هو مؤكد أن التحالف السعودي التركي السابق، وربّما المستقبل، هو تحالف مرحلي يختصّ بالأزمة السوريّة فقط. المنافسة بين البلدين تفوق المنافسة الإيرانية التركية، وربّما الإيرانية السعودية. المنافسة بين تركيا والسعودية تتعدّى حدود سوريا، وتتعلّق بالزعامة “السنية” لدول المنطقة.
المصدر / الوقت