من هو “العقل المدبر” للرئيس الاميركي الجديد؟
وإذا كان هناك رؤية سياسية وراء ظاهرة “ترامب”، مع ذلك، فلن يكون الشخص المعني بالسؤال هو “ترامب”. بل سيكون السيد “ستيفن كي بانون”، رئيس الاستراتيجيين بإدارة “ترامب”.
تجاوز “بانون” جذوره من الطبقة العاملة في ولاية فرجينيا مع الفترة التي خدمها في البحرية الأميركية، والدرجة الجامعية التي حصل عليها من كلية هارفارد للأعمال، ثمّ وظيفته كخبير مالي في “غولدمان ساكس”. انتقل إلى لوس أنجلوس للاستثمار في الإعلام والترفيه لصالح غولدمان، قبل أن يبدأ في بنك الاستثمار الخاص به والذي تخصّص في الإعلام. وبمزيج من الحظ والتعبير الغاضب عن الرأي، أعاد “بانون” تقديم نفسه كجرمٍ سماويٍ صغير داخل أقصى السياسات اليمينية، مع كتابة وإخراج مجموعة من الأفلام الوثائقية المحافظة على نحوٍ متزايد.
ووصل نفوذ “بانون” إلى مستوى جديد في عام 2012 عندما تولّى مسؤولية بريتبارت للأخبار. وحين كان في “بريتبارت”، أدار “بانون” برنامجًا شعبيًا موجها للجماهير في الإذاعة، شنّ من خلاله هجومًا لاذعًا على التيار الرئيس من الجمهوريين، وروّج بدلًا منهم لمجموعة من الشخصيات المحافظة بشكلٍ متطرّف. ومن بين هؤلاء كان “ترامب”، الذي كان ضيفًا متكررًا في البرنامج. ونشأت بينهما علاقات قادت “بانون” في النهاية ليكون العقل المدبّر الشعبوي في البيت الأبيض، ووصل إلى ذروة تأثيره بعد أن حصل على أكبر منصبٍ في إدارة “ترامب”.
من المستحيل أن تعرف ماذا ينوي “بانون” أن يفعل مع سلطته الجديدة. فلم يقم بالكثير من المقابلات الصحفية مؤخرًا. لكنّ الوقت الذي قضاه كصانع أفلام محافظ ورئيس لـ”بريتبارت” للأخبار يكشف عن نظرية كبيرة لما يجب أن تكون عليه أمريكا. وباستخدام الكمّ الهائل من كلمات “بانون” من خلال المحاضرات والمقابلات والأفلام، يمكننا استكمال عناصر رؤية أميركا التي قال أنّه يأمل أن يحققها في عهد “ترامب”.
المبادئ الثلاثة لرؤية بانون
تتلخّص الفلسفة السياسية لـ”بانون” في مبادئ ثلاثة تحتاجها الدولة الغربية، وأميركا على وجه الخصوص لتصبح ناجحة، الرأسمالية والقومية والمبادئ اليهودية المسيحية.
ووفقًا لـ”بانون”، تواجه أميركا أزمة في النظام الرأسمالي، يتمثّل في صعود العديد من أصحاب الأفكار الاشتراكية إلى مناصب كبيرة في الدولة في السنوات الأخيرة، وعملوا على خطّة ممنهجة لزعزعة النظام الرأسمالي، وقد قدّم هذه الفكرة في عدد من أفلامه.
ويرجع بانون في أفكاره إلى المفكر الأيرلندي من القرن الثامن عشر، “إدموند بيرك”، والذي أشار إليه بانون في الكثير من خطاباته وأحاديثه. ويقول بيرك أنّ أساس المجتمع الناجح لا ينبغي أن يستند إلى قيم عائمة مثل حقوق الإنسان، بل يجب تمرير التقاليد الثابتة من جيل إلى جيل، لكنّ الولايات المتّحدة قد فشلت في ذلك، من وجهة نظر بانون، وتخلّت عن القيم المجربة والصحيحة مثل (القومية والتواضع والنظام الأبوي والدين)، وتبنّت أفكارًا تجريدية جديدة مثل (التعددية والحياة الجنسية والمساواة والعلمانية).
ووفقًا لكل من بانون وبيرك، فإنّ الفشل في تمرير شعلة القيم من جيل إلى جيل، أدّى إلى فوضى في المجتمع.
النظام الليبرالي الجديد
يرى بانون أنّ الرأسمالية الموجودة هي رأسمالية معيبة ومشوّهة. ويرى أنّه فور الوصول إلى السلطة، فأيًّا ما كنت، سواءً أكنت ليبراليًا أم علمانيًا أو ذا عقل منفتح على العالم، فإنّك تسارع للهيمنة على المؤسسات الديمقراطية وتضييق الرأسمالية لإحكام قبضتك أكثر على السلطة ولتهيئة كل الظروف للحصول على الثراء لنفسك. وأشار في ذلك إلى الأزمة المالية عام 2008، وكيف استغلّها رجال وول ستريت من أجل الاستثمار في الوظائف وفي معاناة الناس.
وعن الاشتراكية، قال بانون في محاضرة له عام 2011 أنّه توجد “اشتراكية للأثرياء” و”«اشتراكية أخرى للفقراء”، من أجل أي يبقى الأثرياء أثرياءً، وسحب أدنى حقوق الفقراء.
ويرغب بانون في أن تنتهي كل هذه الاشتراكيات التي ترعاها الليبرالية.
باختصار، في فلسفة ورؤية بانون، أدّت الأزمة الرأسمالية إلى الاشتراكية ومعاناة الطبقة الوسطى. وجعلت من المستحيل على الجيل الحالي أن يترك مستقبلًا أفضل للأجيال القادمة، والوفاء بواجبها الذي أشار إليه بيرك.
القيم اليهودية المسيحية
إذن، ما هي تلك التقاليد الأميركية التي من المفترض أن تمرّ للأجيال القادمة؟ واحد من تلك المصطلحات التي يكررها بانون باستمرار، بجانب الأزمة الرأسمالية، هي “القيم اليهودية المسيحية”.
وكان لدى فيلم بانون عام 2010، الكثير ليقوله حول القيم الأميركية. وقدّم بانون عنصرًا دينيًا قويًّا بين تلك القيم. وحاول الفيلم أن يخبرنا أنّ نجاح أميركا والحضارة الغربية بصفة عامة ينبني على الرأسمالية. وتعتمد الرأسمالية على “القيم اليهودية المسيحية”.
ولعودة أميركا على الطريق الصحيح، يرغب بانون في أن تستعيد الرأسمالية قيمها الحقيقية بالعودة إلى القيم اليهودية المسيحية، وتعني ألّا تستثمر الشركات فقط لمصلحتها الخاصّة، ولكن لأجل مصلحة عمّال الوطن والأجيال القادمة.
وجدير بالذكر أن نقول أنّ القيم اليهودية المسيحية التي يعنيها بانون، لا تعني بالضرورة إيمان كل المواطنين بالمسيحية. فبانون لا يريد التخلّي عن فصل الدين عن الدولة أو تعديل الدستور الأميركي، لكن يعني أن تنبني الرأسمالية على مجموعة من القيم التي تأتي من التقاليد اليهودية والمسيحية.
ولأجل ضمان أن يكون الشعب كله على قلب رجلٍ واحد وراء تلك القيم، لابد من الحدّ من تواجد من لا يؤمنون بالقومية.
القومية
يرى بانون أنّ النخب العالمية لا تكتفي فقط بإثراء أنفسها وتشجيع الاعتماد على الدولة بين الفقراء، لكنّها تقوم أيضًا بتشجيع تدفّق الهجرة على البلاد، ما يخفّض الأجور، ويسمح لها بتحقيق أرباحًا أكبر للمؤسّسات، مع ترك الطبقة الوسطى تقوم على تعليم وإطعام وخدمة هؤلاء الأجانب.
ويرى أنّ النظام الإلحادي التعددي قد سمح بظهور تيار ينتقد القومية ويعتبرها نوعًا من التعصّب. ويؤدّي ذلك إلى الدفاع عن كل المجموعات الضارة مثل كارهي الشرطة والمجرمين غريبي الأطوار والإرهابيين المحتملين، الأمر الذي يجعل من مدننا بؤرًا ساخنة للعنف.
ويرى الاتّحاد الأوروبي، بمعدّلات نموّه القريبة من الصفر، نموذجًا صارخًا للمصير الكارثي لنظام العولمة الذي تحكمه نخب لم تكن على قدر المسؤولية أمام المواطنين الذين انتخبوهم.
وعلى عكس الليبرالية، فإنّ القومية تعمل على إذابة الفوارق والألوان لتتّحد تحت حس العلم الأميركي، من خلال الالتفاف حول القيم والتقاليد اليهودية المسيحية.
وقال في خطابٍ له العام الماضي: “هذه ليست ديمقراطية جيفرسون” (جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتّحدة وكان متحدّثًا باسم الديمقراطية)، مشيرًا إلى المهاجرين المسلمين الذين يتدفّقون على أوروبا والولايات المتّحدة. وأضاف: “لا يوجد أناس يتمتّعون بآلاف السنين من الديمقراطية في حمضهم النووي”، وربّما كان هذا مبررًا لإغلاق الحدود أمام أميركا الجنوبية أيضًا، رغم أنّ غالبيتها من الكاثوليك المتدينين.
نظرية الأجيال
يستند الحديث عن الأجيال هنا إلى “نيل هاو” و”ويليام شتراوس”، وهما اثنان من المؤرخين الهواة، قدّما في التسعينات ما يسمى بـ “نظرية الأجيال” في التاريخ الأميركي. وتقسم هذه النظرية التاريخ الأميركي إلى أجيال، كل جيل يستمر لـ 80 عامًا، وتنقسم تلك الأعوام الثمانين إلى أربعة مراحل، في كل مرحلة 20 عاما، وهي “العلو ثمّ الصحوة ثمّ الانكشاف ثمّ الأزمة”.
وهي نظرية غامضة للغاية ليتم إثبات خطئها. ولم يأخذها معظم المؤرّخون المحترفون على محمل الجد. لكنّها قد تكون صحيحة بشكلٍ سطحي. وبناءً عليها يرى بانون أنّ أميركا تعيش الآن في طور الأزمة، بينما كان طور العلو إبان الحرب العالمية الثانية.
كيفية حلّ الأزمة: صراع من الحجم الكبير
يرى بانون أنّ الأزمة الحالية نتيجة تراكم الديون في العقد الأول من الألفية الحالية، وما بعد الأزمة العالمية عام 2008. وقال في خطاب له عام 2010 أنّ “هذه الديون المتراكمة تشكّل تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأميركا”.
لكنّ الخطير في الأمر هو مقارنة بانون للأزمة الحالية بأحداث تاريخية جسيمة مثل حرب الاستقلال الأميركية والحرب العالمية الثانية. ويبدو أنّ بانون يذهب للاعتقاد في أنّ الولايات المتّحدة تتجه نحو صراع عنيف.
وبما أنّ بانون يؤمن أنّ “العلو” لا يأتي إلّا بعد “أزمة”، والأزمة لابد أن تكون بالضرورة حربًا على نطاقٍ واسع، فقد صرّح في محاضرةٍ له بالفاتيكان عام 2014 قائلًا: “… وفي اعتقادي، نحن على أعتاب حربٍ عالمية على الفاشية الإسلامية”.
وأضاف: “ربما يكون حديثي متشدّدًا أكثر من غيره… أعتقد أنّكم يجب أن تكونوا عدوانيين للغاية ضد الإسلام الراديكالي… انظروا ماذا يحدث، وستجدون أنّنا في خضمّ حربٍ ذات أبعادٍ هائلة”.
حرب “بانون” العالمية
تترك لنا تصريحات بانون، والمروّجين لأفكاره مثل “باميلا غيلر” و”روبرت سبنسر”، انطباعًا عن أنّ العدو في الحرب المزعومة لابد من أن يكون الإسلام بشكلٍ عام. وتحدّث موقع بريتبارت، الصوت الثقافي لبانون، أنّ حرب الإسلام ضدّ المسيحية “قد بدأت منذ نشأة الإسلام”، وأنّه في الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، كان الإسلام الفاشي هو العدو الأول لأوروبا.
وتضمّنت أفكار بانون أفكارًا أخرى مثل أنّ منظمة غير ربحية كانت تعمل في الولايات المتّحدة على تجميل صورة المسلمين هي منظمة إرهابية، وأنّ مسجد الجمعية الإسلامية في بوسطن كان وراء تفجير ماراثون بوسطن، وأنّ المسلمين الأمريكيين يحاولون إحلال الشريعة الإسلامية محلّ الدستور الأميركي.
ولذا فهو يرى أنّ مواجهة الإسلام هي الطريقة الوحيدة لحل الأزمة.
ماذا يعني كل هذا لرئاسة “ترامب”؟
حتّى قبل أن يتولّى الحملة الرئاسية لـترامب في أغسطس/ آب عام 2016، ظهرت فلسفة بانون في لهجة خطاب الحملة. وإذا كنت تتساءل عن دور بانون في الإدارة، فسوف تخبرك القرارات الرئاسية خلال الأسبوعين الأولين لـترامب» في الرئاسة.
كان خطاب تنصيب ترامب يحمل تبجح وعنف خطاب بانون بامتياز. ففي حين تكون خطابات التنصيب التلقائية مفعمة بالتفاؤل والأمل، عبّر خطاب ترامب عن الاستياء من النخب. وعبّر عن رؤية بانون بالحديث عن “الأموال التي أخذت من منازل الطبقة الوسطى، ثمّ وزّعت على كل العالم”. وتحدّث عن “تلك الدول التي جعلناها غنية، لكنّ ثروة وقوّة وثقة بلدنا قد تبدّدت في الأفق”.
وكان شعار “أميركا أولًا” هو الشعار القومي الاقتصادي لـبانون. وتعهّد ترامب “بتوحيد العالم المتحضّر ضدّ الإرهاب الإسلامي المتطرّف، والقضاء عليه وإزالته من على وجه الأرض”.
ويبدو أنّ فلسفة بانون المعادية للإسلام قد أثّرت على قرار “حماية الأمّة من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتّحدة”. وكان بانون قد تحدّث في قناة مسيحية حول أن تكون الأولوية للاجئين المسيحيين على حساب المسلمين، متّهمًا الحكومة السابقة بجعل أولوية اللاجئين المسلمين على حساب المسيحيين (وهو الادّعاء الذي لا يوجد عليه دليل).
والتركيز الآخر لإدارة ترامب على المكسيكيين كتهديد آخر لأمن الولايات المتّحدة، دليل آخر على بصمة بانون، الذي يرى في المهاجرين المكسيكيين خطرًا على السلامة والأمن القومي الأميركي، ويرى أنّ لديهم معدّل جريمة مرتفع، على الرغم من أنّ خبراء الجرائم قد أكّدوا أنّ معدل الجريمة لدى المهاجرين أقل من المعدّل لدى المواطنين المولودين بالبلاد.
هل بدأ عصر فلسفة “بانون”؟
يمثّل بانون الآن قوّة رمزية. وقد رسّخت تلك القوّة الرمزية نفسها في حملة ترامب، والآن في إدارته. ويمكننا القول أنّ بانون دعائي بامتياز وانتهازي بامتياز أيضًا، نظرًا للتحوّلات المهنية التي مرّ بها في حياته. لذا فمن المحتمل أن يكون السرد الذي غذّى به بانون خطاب ترامب وقراراته التنفيذية مجرّد تعبئة شعبوية لأقصى درجة لإثارة حماس الأتباع، ولن تنعكس في الحقيقة على إجراءات تقلب نظام أميركا.
لكن مع ذلك، توجد احتمالية لأنّ بانون سوف يوجّه ترامب نحو “الرأسمالية المستنيرة” والرؤية القومية ذات القيم اليهودية والمسيحية التي أصبح يرى أنّ أميركا تحتاج إليها.
لكن بالطبع لا نستطيع أن نعرف ما هو عليه حقًّا. فقط بانون هو من يعرف ما يرغب به بانون حقًّا. لكن ما نعرفه على وجه اليقين بالرغم من ذلك، أنّ رجلًا راهن على الرغبة في تجدّد عنف “الحضارة الغربية”، أصبح لديه السلطة الآن لتحقيق تلك الرغبة.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق