التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, نوفمبر 17, 2024

أستودعكم الله.. والانتفاضة المظلومة 

هو نموذج فريد من المقاومة، فريد عن كافّة تنظيماتها التقليدية. شاب مثقّف مرن لطيف مرهف صاحب قلم وبندقيّة. إنّه الشهيد باسل الأعرج الذي عرج باسلاً إلى السماء بعد مواجهة دامت لأكثر من ساعتين مع الجيش الإسرائيلي في رام الله، تاركاً خلفه كتاباً وكوفيّة وسلاحاً ورصاصات أفرغها في صدور المحتلّين.

لم نعرف الكثير عن الأعرج الذي كان مدونا وباحثا في التاريخ الفلسطيني، يجمع بين كتفيه تاريخ فلسطين من الاحتلال البريطاني إلى الاحتلال الإسرائيلي، وعشرات العمليات البطولية التي كان يرويها خلال الرحلات الميدانيّة التي كان ينظّمها بهدف التعريف والربط بالأرض الفلسطينية المحتلة.

الشهيد باسل على الحدود اللبنانيّة الفلسطينية (بوابة فاطمة، جنوب لبنان)
الشهيد باسل على الحدود اللبنانيّة الفلسطينية (بوابة فاطمة، جنوب لبنان)
ولعل التنوّع هو السمة الأبرز في حياة المثقّف الشهيد، صاحب المبادرات الفرديّة والمقاومة الفرديّة، من القلم إلى السلاح، إلى الاعتقال لدى السلطة الفلسطينية، ولاحقاً للمطاردة من طرف الاحتلال الإسرائيلي، فالشهادة، ترك الشهيد المشتبك أثراً بالغاً في نفوس أبناء “العروبة والوطن والتحرير”، كما جاء في وصيّته، فالوصيّة الأساس “أمانة المقاومة”، بشقّيها العسكري الخشن، والثقافي الناعم، الذي أثبت “المثقّف المشتبك” أنّه أشدّ وطأةً على الكيان الإسرائيلي.

من كلمات الشهيد: بدك تصير مثقف، بدك تصير مُشتبك، ما بدك مُشتبك… بلا منك وبلا من ثقافتك.

كثيرةً هي المحطّات المشرّفة في تاريخ الشهيد، بدءاً من كلماته الرنّانة ورحلاته الميدانيّة التعريف والربط بالأرض الفلسطينية المحتلة، مروراً باقتحامه متجر “رامي ليفي” الاستيطاني وخروجه في مقدّمة المحتجين على زيارة وزير دفاع جيش الاحتلال السابق “شاؤول موفاز” عام 2012 إلى الضفّة الغربيّة، وصولاً إلى ساعتين من الاشتباك الذي تلطّخت فيه كتبه وكفيّته والبندقية بالدماء على روت الأرض والقضيّة.

من كلمات الشهيد: كل ما تدفعه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، فستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرة.

وعند التدقيق في تفاصيل الشهيد ابن بلدة “الولجة” الواقعة في بيت لحم، والتي تعد أهم البؤر الساخنة في المقاومة الشعبية ضد الاستيطان، ترتسم معالم جيل جديد من المواجهة، لا يشفي القلم غليله بل يتنقّل بين قاعات الجامعات ومواقع المقاومة. جيل أراده الكيان الإسرائيلي وبعض المتواطئين خمولاً تحت شعار” التسامح”، سيمسح غبار عشرات السنين من التخاذل والتنسيق الأمني الذي كان “الشهيد الأعرج” أبرز ضحاياه، باعتبار أنّه خرج في الثامن من أيلول الماضي من سجن السلطة الفلسطينية في أريحا عقب ستة أشهر من الاختفاء والاعتقال مع خمسة آخرين يقبعون حالياً في السجون الإسرائيلية، بخلاف الشهيد “المتخفّي” طوال المدّة الماضية تحت سواتر عدّة آخرها انتحال شخصية سائح أجنبي في الشقّة التي استشهد بداخلها وكان قد استأجرها قبل شهرين ونصف من رحيله.

من كلمات الشهيد: لا تعتَدْ رؤية الصهيوني، حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزّة حينما يشاهدون صهيونياً، يركضون باحثين عن حجرٍ لرجمه به

“الشهيد الصيدلاني”، تنوّع الألقاب يكشف تنوّع سبل مقاومته، والذي نال شهادة البكالوريوس في الصيدلة من إحدى الجامعات المصرية، عاش حياةً سعيدة لطالما تمنّاها كل شريف في العالم، ففي حين يعيش المثقفين وطلاب الجامعات حسرة الحياة المقاومة وما تحملهامن لذّات ممزوجة بالعناء، يتمنّى طلاب المقاومة أن يجلسون في قاعات الجامعات في فترات استراحتهم، لكن “المثقّف المقاتل”، قد نال الحسنيين معاً.

من كلمات الشهيد: عش نيصاً… وقاتل كالبرغوث

اللافت اليوم هو البيان الذي صدر عن “الحراك الشبابي الشعبي” والذي نعى “أحد أهم قادته المؤسّسين في الضفة الشهيد القائد باسل الأعرج”، قائلاً: لحق بركب أبناء الحراك، فبالأمس القريب كان أحد أهم قادة الحراك الشبابي الشعبي في القدس الاستشهادي القائد مصباح أبو صبيح قد نفذ عمليته البطولية في قلب القدس المحتلة، واليوم (أمس) الشهيد القائد باسل الأعرج يرفض تسليم نفسه للاحتلال ليرتقي شهيداً”، ما يعني تبنّي الحراك لأولى العمليات (الشهيد أبو صبيح) بشكل رسمي، وهو الحراك الذي حظره وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان بناءً على توصية من جهاز الأمن العام (الشاباك).

الشهيد باسل على الحدود اللبنانيّة الفلسطينية (بوابة فاطمة، جنوب لبنان)
في الحقيقة، عندما شاهدت كفيّة الشهيد بالأمس ملطّخة بدمائه الطاهرة، استحضرت في هذني تاريخ المنطقّة المشرف، من مواجهة الاحتلال العثماني، ولاحقاً الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، وحالياً محطّات عدّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وأيقنت أن العروبة الحقيقة التي نتغنّى بها اليوم في كتب تاريخنا، لا زالت حاضرة بينانا، في أناس مجهولين في الأرض ومعروفين في السماء.

رحل ابن الثلاثة والثلاثين عاماً شهيداً، كما كان يصبو، تاركاً خلفه أمانة الأرض والقضيّة والانتفاضة التي كان يطلق عليها لقب “الانتفاضة المظلومة”، فهل سنكون أهلاً للأمانة؟

وصية الشهيد

تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد.. إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء. لكَمْ من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها. لطالما حيرتني تلك الوصايا: مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.

الشهيد باسل على الحدود اللبنانيّة الفلسطينية (بوابة فاطمة، جنوب لبنان)
أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟ كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم. أما نحن ــ أهل القبور ــ فلا نبحث إلا عن رحمة الله.

الشهيد باسل على الحدود اللبنانيّة الفلسطينية (بوابة فاطمة، جنوب لبنان)

المصدر / الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق