لماذا تتجاهل أوروبا تصعيد أردوغان الناري؟
يواصل الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان تصريحاته الناريّة ضدّ الاتحاد الأوروبي متجاوزاً كافّة الحدود الدبلوماسيّة المألوفة، ومنتقلاً من الحقبة النازية إلى مرحلة “الحروب الصليبية” قبل نحو 9 قرون تقريباً.
واللافت أن تصريحات أردوغان الناريّة، تواجه بفتور أوروبي يقتصر على بيانات الرفض حيث اعتبر الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، والمستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، أمس الخميس، تصريحات أردوغان الذي تحدث عن “ذهنية نازية” في ألمانيا وهولندا، بأنها “غير مقبولة”.
لا يختلف اثنان على أن التصعيد التركي يتعلّق برفض أوروبا لمشاركة الوزراء الأتراك في التجمعات التي تهدف لتشجيع الجاليات التركيّة على التصويت باستفتاء تغيير نظام الحكم إلى رئاسي، إلا أن اللافت هو استمرار أردوغان بمهاجمة الاتحاد الأوروبي، وتهديد وزير خارجيّته مولود تشاوش أوغلو بإلغاء اتفاق الهجرة الموقّع مع الاتحاد الأوروبي في آذار/مارس 2016 والذي خفض أعداد المهاجرين واللاجئين المتدفقين على أوروبا، فما الذي يدفع الرئيس التركيّ لتبنّي خطاب تصعيدي مع الدول الأوروبيّة؟ وهل يمكن أن تعود العلاقات الأوروبية التركيّة إلى سابق عهدها بعد أن تضع حرب الانتخابات أوزارها؟
يبدو واضحاً أن الهدف الرئيس من كلام أردوغان اليوم يتلخّص في شد العصبية القوميّة التركيّة، وإظهار نفسه كمدافع عن حقوق الأتراك والمسلمين في أوروبا بغية الحصول على أصوات الناخبين الأتراك في الاستفتاء المرتقب بتاريخ 16 أبريل المقبل لتحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وهذا ما يفسّر ناريّة أردوغان خلال الأيام القليلة الماضية، وكذلك المقبلة حتى موعد الاستفتاء الدستوري التركي.
لذلك حاولت أوروبا تفويت الفرصة على أردوغان عبر عدم الدخول في سجال مباشر مع الرئيس التركي سيصبّ في صالحه في نهاية المطاف، معتمدةً سياسة ثلجيّة لا تخلو من بيانات “عدم القبول” مراعاةً للبرستيج الدبلوماسي.
إلا أن قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير بالسماح للشركات بمنع الموظفين من إظهار وارتداء رموز دينية كالحجاب، صبّ في صالح أردوغان، لناحية تأجيجه “للعصبية” الإسلاميّة، وإظهاره كمدافع عن حقوق المسلمين في أوروبا، الأتراك وغيرهم، ما دفعه للانتقال من الحقبة النازيّة إلى الحقبة الصليبيّة.
يُتقن أردوغان فنّ اللعب على وتر الخلافات ونبش التاريخ، ولاحقاً تجاهله، لتحقيق أي مصلحة آنيّة، ولعل حادثة سفينة مرمرة والتدخّل التركي العسكري في سوريا والعراق، وكذلك الخلاف مع روسيا خير دليل على “برغماتية” الرجل، التي ستتوصل حتى شهر من الآن، أي موعد الاستفتاء.
ولكن رغم برودة الاتحاد الأوروبي في الرد على تصريحات أردوغان الناريّة، والتي تجاوز بها الخطوط الحمراء الأوروبيّة بدءاً من النازيّة الألمانية ووصولاً إلى الحروب الصليبيّة، مروراً بمجزرة سريبرينيتسا التي وقعت عام 1995 في البوسنة وحمّل مسؤوليتها إلى هولندا، يبدو أن الاتحاد أجرى سلسلة قرارات تأديبيّة بحق أردوغان “المتهوّر” من خلال وقف ألمانيا لتوريد الأسلحة إلى تركيا بعد مطالبة البرلمان، وكذلك تأكيد الاتحاد على أن هذه الاتهامات تبعد أنقرة أكثر عن مسعاها للانضمام إلى الاتحاد.
في الواقع، إن جلّ اهتمام الرئيس التركي اليوم يتعلّق بتحويل نظام الحكم إلى رئاسي بأي مقابل، وحتى لو كان هذا المقابل تأخير دخوله إلى الاتحاد الأوروبي أو حتّى إلغاءه، وبالتالي لن يعير أردوغان هذه القرارات في المرحلة الراهنة أي اهتمام، بل سيتّخذها منصّة للتصويب على أوروبا. في الحقيقة، إن الرئيس أردوغان يسعى من خلال ناريّته إلى إبعاد الشعب التركي عن جوهر الاستفتاء وما يحمله من تبعات داخليّة، ويوجّهه نحو التصعيد، خاصّة أن حزب العدالة والتنمية يرفع منذ العام 2002 شعار “من أجل تركيا القوية” الذي عزّز من شعبيته الداخليّة.
وأما فيما يتعلّق بأسباب الرفض الأوروبي لأنشطة أردوغان، فالأمر يتعلّق بسياسة أردوغان الداخليّة من جهة، والخارجية مع أوروبا باعتبار بوابتها الشرقيّة من جهة أخرى (للمزيد راجع: لماذا تعترض أوروبا على تغيير أردوغان لنظام الحكم في تركيا).
هذا الرفض قد يؤثر على قرار الجاليات التركيّة المقيمة في أوروبا (على سبيل المثال تعد الجالية التركية في ألمانيا أكبر جالية أجنبية هناك، إذ يبلغ عدد الأتراك المقيمين في ألمانيا حوالي مليون ونصف المليون تركي، في حين يتحدّث البعض عن وجود أكثر من مليونين ونصف المليون)، وهو السبب الرئيسي في غضب أردوغان الذي تراجع داخلياً لأسباب تبدأ بحربه على الأكراد، وتمرّ عبر الأوضاع الأمنية والاقتصاديّة الصعبة، ولا تنتهي بمواجهته السياسيّة مع أحزاب عدّة في مقدّمتها حزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه کمال قلیتش دار أوغلو.
في الخلاصة، إن هذا التصعيد السياسي والذي يستخدم فيه أردوغان كافّة أنواع الأسلحة، يتغذّى من صراع وجودي يخوضه الحزب الحاكم ينتهي عند الاستفتاء الدستوري. وبالتالي، فإن مرحلة ما بعد الاستفتاء لن تكون كما قبله لناحية علاقة أردوغان مع حلفائه الأوروبيين حيث يدرك الجانبان أنّه لا غني لأي طرف عن الآخر. اليوم، يمارس أردوغان تجربة العداء الروسي مع أوروبا، والتي لن يلبث أن يتراجع عنها بعد مدّة. ففي هذه الأيام كل شيئ يتغيّر في تركيا، عدا “برغماتيّة” أردوغان.
المصدر / الوقت