التحديث الاخير بتاريخ|الأربعاء, نوفمبر 6, 2024

حكاية شعب في طقس حار 

عبدالرضا الساعدي
يعجب الكثيرون ، ممن لا يعرفوا طباعنا وطقوسنا والحياة اليومية التي نعيشها عموما ، ويندهشون كثيرا ، بل يتساءلون أيضا ، كيف يمكن للشخص هنا أن يواجه هذا الغليان اليومي في درجة الحرارة خلال شهور الصيف اللاهبة ، حين تتجاوز درجة الحرارة 50مئوية مثلا ، وأية مواجهة هذه التي لا تخلو من مفارقة وصبر وتحدٍ وحكايات كثيرة تمتلئ بها الشوارع والمقاهي والبيوت ومعظم الأمكنة البسيطة والفقيرة التي تخلو ،ربما ، من وسائل الراحة والترفيه وحتى العيش الطبيعي في هكذا أجواء.

يتطلع المندهشون لحالنا ، في تلك الأجواء الحارقة ، إلى شعب يحتسي الشاي الساخن فيمتزج بخاره المتصاعد مع دخان السيجارة المحترقة ،بكل لذة، لتشكل مع أبخرة الشمس المتصاعدة من كل مكان ، سحباً متداخلة ومتناغمة في تشكيلها الناري المتصاعد في خطوطه وألوانه وتعرجات همومه ، نافثة في الوقت نفسه زفير المشاعر والتأملات والفكر والأمنيات القريبة والبعيدة ، في وقت واحد ، شاي عراقي ساخن لا يقبل التراجع ولا ينتظر منّة الكهرباء التي لا عهد لها في الوصال والتواصل منذ عهد بعيد ، شاي وسيجارة تتقاسمان حكاية هنا وسالفة هناك ، بينما المكان مليء ومزدحم بالذكريات والمواقف والحكايات، كما ازدحام السيارات والمركبات والعربات المختلفة ، بعض الحكايات تختصر مرورها على الذاكرة والألسن ، لأوجاعها وأثقالها التي بطعم الألم والنكبات والموت ، وأخرى يطول المكوث معها والتلذذ بحلاوتها ، لأنها بطعم الحب والحياة والنجاح أو الانتصار .

في داخل الحكاية الواحدة التي تطلب شايا آخر في طقس يفوق الخمسين مئوي ، يتداخل الحزن والبهجة بحروف وإشارات وملامح لا يفهم المندهشون والمتطلعون لحالنا كيف تعقد هذا التلاحم والوئام والعناق بين بعضها البعض ، في داخل الحكاية الواحدة التي تشعل سيجارة أخرى وأخرى بكل رشاقة وانسياب من الجمر اللاهب على الشفاه والملامح ، تنطلق عبارات التذمر والغضب وحتى الوقاحة ، برفقة عبارات الصبر والاسترخاء والتهذيب والسلام.. الاختزال والصمت بجانب اللغو والضجيج ، الدمع المخفي واليأس يرافق النكتة أو الهزل الذي لابد أن يطال مسؤولا فاسدا أو وزيرا فاشلا ، أو سياسياً مخيبا للآمال ، مستائين من الفوارق غير العادلة في الرواتب والامتيازات الفاحشة بين الشعب والمسؤول، أو بين الطقس الحكومي والنيابي البارد والمرفّه وبين طقسنا (التنوري ) دائم الحسرة والجمرة.

هكذا نحن كائنات متذمرة ، محبة ، متشنجة ، متسامحة ، محبطة ومتفجرة بالعطاء في ذات الوقت ، نقاتل في جبهات عدة وننتصر برغم المشقات الهائلة ، ونبحث عن عمل في جبهات أخرى ، في حياتنا هذه المليئة بالبدايات دائما ، وما أصعب البدء ، لكنه يجعلنا مستمرين في كل الأحوال من أجل شيء يتحقق ونجاح مرتقب.
هكذا ، مزيج هائل من التناقضات العجيبة والمحببة التي يحبكها المشهد الحارق عبر شعب يحب أن يبقى حياً قوياً محتفظا بشخصيته ، بذاكرته وتراثه ، ملتصقا بماضيه حد العشق ، الماضي الذي يعيد له نكهة التاريخ والتجارب والأسماء والرموز وبعض الإنجازات المهمة التي تحققت عبر شخصيات لا تنسى .. وكلما ازداد الحر في سطوته وغابت الخدمات تقترب الأحاديث والسلوكيات تميل إلى المقارنات بين الحاضر والماضي ، وكلّ له في ذلك شؤون أو شجون ، أما الحديث عن المستقبل في شهر تموز أو آب مثلا ، فلم يعد حديثا أو نزوعا نحو الثورات أو الانقلابات كما كانت الأجيال سابقا أيام النظم الملكية وما تلاها من نظم عسكرية ، بل هو أقرب إلى إحساس وثقة بالأمل في التغيير بشكل دائم وغامض لا يفهمه أو يراه سوى العراقي وحده ، وهناك نظرة بعيدة إلى السماء ونبرة إيمان عميقة : الله كريم ..!

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق