السعودية وحساباتها في العراق الجديد
أكثر من وجهة كان يمكن ان تتخذها السعودية في مراحل لاحقة من التطورات السياسية في العراق، لكن البداية كانت توتراً عبّر عن نفسه بالكثير من جوانب الموقف السعودي، ولم يكن ذلك جديداً أو مستغرباً بحد ذاته، لكن الجديد فيه هو الشعور المتزايد بالعزلة الذي بات يقلق السعوديين، خاصة بعد الإنفتاح العربي والعالمي على العراق والمؤشرات على نهوض سيجعله مركز استقطاب ـ سياسياً واقتصادياً واعلامياً ـ.
كانت لذلك مقومات تمثلها طبيعة المجتمع العراقي غير المتعصبة والقادرة على التفاعل مع متطلبات الحداثة، مع ثبات تجربته الديمقراطية ونتائجها التي دفعت بالقوى الوطنية الى الواجهة، وقدرة العراق على سحب القاعدة الإجتماعية من منظمات الإرهاب ـ على عكس المجتمع السعودي المتشدد والمنغلق على ذاته ـ.
خصوصيات المجتمع العراقي تلك، منحت العالم إنموذجاً يمكن مساندته ورفده بعوامل الإستقرار في منطقة تزداد أهمية للعالم، لكن تحكمها أنظمة فقدت صلاحيتها منذ زمن ليس قصيراً.
وانطلاقاً من تلك الحيثيات، عادت الهواجس السعودية من تعميم التجربة العراقية أو عدم القدرة على تحمل ضغطها، لتحتل الأولوية في تفكير السعوديين، حيث مازالت حيّة تلك التسريبات عن خطط أمريكية أوربية للحدّ من النفوذ السعودي في المنطقة، الذي أعتبر مسؤولا عن نشر الفكر المتشدد للحركات الإسلامية التي إنبثق منها الإرهاب.
الدعاوى السعودية بإشتراط تحقيق الإصلاحات والمصالحة الوطنية في العراق، كانت محاولة لإخفاء حقيقية التوتر مما يحمله الوضع العراقي من تأثيرات على الداخل السعودي، إذ يقف العالم أمام إنموذجين من الحكم: ملكية وراثية مطلقة تستند الى دعاوى دينية تطلق التكفير والتشدد من عقاله دونما ضوابط، وهي تحكم مجتمعاً لايعرف التنوع والتسامح، وفوق ذلك تتحكم بأهم مصادر الطاقة.
في مقابل ديمقراطية أثبتت حيويتها رغم ظروفها المستحيلة، ومجتمع متنوع إستطاع أن يسير بثبات على طريق الخروج من أزمته ليقدم خطاباً متسامحاً ومتصالحاً مع الجميع، كما انه أيضا بلد غني يملك الكثير من مصادر الطاقة وفرص الإستثمار المجزية.
وفي مقابل تاريخ لايحمل ماهو مريحاً وموحياً للعالم كله، واستيلاء على الحكم بالقوة لتسجيله بإسم عائلة واحدة، يقف التاريخ العراقي الذي زود العالم بالكثير من منجزاته الحضارية وأرثه الروحي والأدبي، مع تجاوزه الإستيلاء على الحكم بالقوة ولجوئه من ثم الى شرعية صناديق الإقتراع كما هو متبع في العالم الحر.
فهل يمكن تصور ماذا يختار العالم؟
أما الخطوة الأكثر قلقاً للسعوديين، فقد مثلّها التقارب الذي كان قد لاح في الأفق يومها ،بين سوريا والعراق بما يحمله من إحتمالات إمتداد قد تصل الى شواطىء المتوسط.
ومع موجبات المصلحة الأردنية الأقرب الى العراق منها الى السعودية والمشكلات اليمنية والقطرية والإماراتية مع السعودية حيث تشعر تلك الدول بأن السعوديين يمارسون عليهم نوعاً من الوصاية غير المستحبة، خاصة بعد ان قطعت تلك الدول شوطاً كبيراً لبناء مجتمعات تختلف بشكل كبيرعن الواقع السعودي، الذي يمكن وصفه بالرجل المتجهم شديد الإرتياب والتعصب ـ بل والعجرفة ـ في مقابل رجال مرحين يستمرؤن العيش والإندماج مع غيرهم لممارسة قانون الأخذ والعطاء كما تتطلبه الحياة الحقة، ذلك مايجعل السعوديين يشعرون بالإختناق، وان اعتقدوا انهم دهاة بما يكفي لإخفاء قلقهم تحت يافطات مختلفة .
لكن ذلك كان الوجه الأول من العملة السعودية الذي بدا أكثر ظهوراً، على انه لايمنع من رؤية أخرى يمكن ان يحتملها التطوراللاحق للوقائع العراقية ،وقديستوجب إعادة نظر سعودية شاملة تحتمّها المصالح اولاً، لكنها تبقى مرفقة بسؤال مرتفع الوتيرة، هل السعودية قادرة على التحول في مواقفها تجاه العراق؟
النظرة السائدة في الوسط السياسي العراقي، تذهب الى ان السعودية هي الدولة الأكثر حساسية تجاه التغييرالذي حدث في العراق، ومع تقدم العملية الديمقراطية وتجاوزها قطوعات مهمّة، بدأت السعودية تشعر بضيق متزايد من ثبات الحالة العراقية على وضعها الراهن الذي وضع (الخصم) الطائفي في موقع السلطة وما قد يعكسه ذلك من تأثير مباشر على أوضاعها.
وفي الخلاصات العامة، تعتبر السعودية بلداً محاصراً كذلك ، فإيران المتربصة وسوريا المشاكسة واليمن المضطربة والأردن الصامتة على مضض عن (حق هاشمي سليب) ثم إمارات الخليج المتذمرة من دور (الأخ الأكبر) كما أسلفنا، وأخيراً يأتي التغيير في العراق على احتمالاته المفتوحة بكل إتجاه ليزيد من طين السعودية بللاً .
لايعني هذا أن السعودية ستتخلى عن رهابها المذهبي وخشيتها من التمدّد الشيعي، فذلك لن يجري عليه تغيير بأية حال، لكن البراغماتية تنطلق من القاعدة الذهبية في السياسية (لا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل مصالح دائمة) وبالتالي فهذه القاعدة هي التي ستقود السعودية الى ضرورة التعايش مع ما حدث في العراق على علاتّه، شرط حصر مخاطره في حدود العراق وضمان عدم إنتقال (العدوى) الى مناطق أخرى قد تؤثرعلى المصالح السعودية ـ بمستوييها المادي أو المعنوي.
بقلم / د. علي السعدي