أمريكا وايران: بين الإعلام والسياسة والميدان
تمرّ المنطقة، والعالم بشكل عام، بمرحلة متغيّرات هي الأسرع خلال العقود الثلاث الماضيّة.
ففي حين يتحدّث البعض عن اندلاع حرب نووية بعد وعيد “النار والغضب” المدوّي للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وردّ كوريا باستهداف جزيرة غوام الأمريكية غرب المحيط الهادئ، في ظل تحذير فورين أفيرز لأمريكا من الاستخفاف بالكوري “الصبي البدين” أو “الفتى الطائش”، تشهد منطقة الشرق الأوسط تغيّرات سريعة في ظل تهيّؤ أغلب الأطراف لمرحلة ما بعد تنظيم داعش الإرهابي، مرحلة قدّ تتّسم بالصراع السياسي بعد سنوات من الصراع العسكري.
قد لا يستسيغ البعض قراءة الجنون الترامبي في الملف الكوري على أنّه لعبة مدروسة من قبل واشنطن لأسباب عدّة، من ضمنها التعويض الإعلامي للانكسار الأمريكي في المنطقة، ليبقى السؤال قائماً بعد هذا الإقرار بالهزيمة: هل انتهت المعركة فعلاً؟ وما هي مشاريع أمريكا المقبلة تجاه المنطقة؟
وعند الدخول في الواقع الأمريكي الشرق أوسطي يبدو أن الفشل يُرخي بظلاله على الإعلام الأمريكي الذي يسعى لتقديم الحلول. ففي حين أكّدت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية في مقال تحليلي انهيار استراتيجيات ترامب في سوريا، أمام موسكو والحكومة السورية، يؤكد معهد واشنطن لسياسيات الشرق الأدنى في مقال تحت عنوان ” التركيز على أهداف واضحة لاحتواء إيران في العراق وسوريا”، أنّ أمريكا عند نقطة مفصلية في الشرق الأوسط، لكنها لم تضع بعد إستراتيجية متماسكة، كما ذكر إميل سيمبسون في مقالة اتسمت بالذكاء في مجلة “فورين بوليسي” بعنوان “هكذا بدأت الحروب الكبرى” ومحررو “واشنطن بوست”، وفق معهد واشنطن.
لا يمكن قراءة مستقبل المنطقة في الوقت الراهن دون الواقع الأمريكي القائم، تماماً كما هو الحال بالنسبة للجمهورية الإسلاميّة الإيرانية التي تجحت في رسم خطوط حمراء لواشنطن، بعد أن كانت المعادلة السابقة على العكس تماماً.
فالفشل الأمريكي في ضرب الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية ومحور المقاومة، ووقوف الأخيرة على مسافة قريبة من شعوب المنطقة وخياراتها المقارعة للإسرائيلي، والمستعمر بشكل عام، عربي كان أم عجمي، عزّز من الدور الإيراني الإقليمي، الأمر الذي قوّض واشنطن التي لم تعد تمتلك سوى القوّات الكرديّة كحصان طروادة يمكن الاعتماد عليه، باعتبار أنّ التدخّل العسكري الأمريكي أمر في غاية الصعوبة لأن “الرأي العام الأمريكي يشعر دوما بالقلق من نشر أي قوات في الشرق الأوسط”، وفق فورين بوليسي الأمريكية.
يعترف جيمس جيفري أحدّ كتاب المقال في معهد واشنطن بأنّه رغم التزام إدارة ترامب باحتواء “التهديد الإيراني” (إنشاء ممر يمتد من طهران إلى جنوب لبنان في أعقاب هزيمة “داعش” ) خلال قمة الرياض في أيار/مايو، لكنه لم تفلح في إيجاد الطريقة المناسبة حتى الآن، وبالتالي يعمد جيفري، الذي رسم الاستراتيجية الأمريكية بالعراق في مرحلة ما بعد داعش، بتفاصيلها وخطوطها العريضة (للمزيد راجع: (“جيمس جيفري” يلخّص الاستراتيجية الأمريكية في العراق: داعش أو الاحتلال!) إلى رسم استراتيجية مماثلة تتعلّق في طهران.
ينتقد جيفري تركيز واشنطن على “داعش” لأنه صبّ في صالح إيران، وفي تعبيره، ليعود ويؤكد “أن الوقت بدأ ينفذ” امام أي استراتيجية أمريكية ضدّ ايران، ويطرح عدّة أسئلة تتعلّق ببقاء القوّات الأمريكية في المرحلة التي تلي داعش، ويضيف:ما من خيار أمام واشنطن إلا وضع إستراتيجية خاصة بإيران.
ويعدّ جيفري من المنظّرين الأساسيين لبقاء القوّات الأمريكية في الشرق الأوسط، وتكمن أهميّة رؤيته باعتباره عارفاً بتفاصيل السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، خاصّة أنّه كان سفيراً لدى تركيا (2008-2010) والعراق (2010-2012) وهي المرحلة التي شهدت الانسحاب الأمريكي من البلاد. إلا أنّ رؤيته هذه ظهرت على العديد من الصحف الأمريكية المرتبطة بمراكز صنع القرار. صحيفة “فورين أفيرز” ترى أن “الانتصار في الرقة لن يدوم إلا ببقاء الولايات المتحدة هناك”، في حين أن النائبة عن محافظة نينوى نهلة الهبابي تحذر من انشاء قواعد عسكرية أمريكية في الموصل وتتهم الاقليم بمساعدة الأمريكان.
جيفري الذي يعترف بمعاناة أمريكا من “مشاكل مزمنة لجهة وضع إستراتيجية، حيث أنها غالبًا ما تتداخل مع بعض الأهداف الأساسية”، يدعو إلى إجراء مقاربة شاملة وملحّة وطارئة تجاه ايران تتركّز على سوريا والعراق بما في ذلك الوسائل العسكرية، من ضمنها العودة إلى “عقيدة باول” التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مجموعة مبادئ وضعها وزير الدفاع آنذاك كاسبر واينبرجر والجنرال كولن باول لضمان “المصالح الحيوية التي هي على المحك” في سوريا. تنص العقيدة على وجوب أن تضع الولايات المتحدة “أهدافًا سياسية وعسكرية واضحة” من أجل تحقيق “النصر”. غير أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا النصر “شاملًا”؛ فقد حدّده باول بعبارات محدودة خلال حرب الخليج – ألا وهو تحرير الكويت وليس الإطاحة بصدام حسين”، أي أن يتمثّل الهدف الأمريكي المحدود في سوريا والعراق ما بعد “داعش” في التضييق على التوسّع الإيراني واحتوائه مع حماية المعتدلين وجماعاتهم، بدلًا من تدمير إيران أو الإطاحة بالرئيس الأسد، وفق جيفري.
أمريكا تعترف
يتقاطع كلام جيفري حول الفشل الأمريكي مع ما قاله وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق هنري كسينجر، الأمر الذي يؤكد نجاح محور المقاومة بإفشال المشروع الأمريكي الجديد، تماماً كما أفشل في تموز 2006 مشروق الشرق الأوسط الجديد. وأما الأصوات المطالبة بالتدخل العسكري، من ضمنها جيفري الذي قال “تتوافق هذه الإستراتيجية مع مبدأ العقيدة الأخير: اللجوء إلى القوات الأمريكية “كملاذ أخير فقط”، فتبدو بعيدة عن الواقع بعض الشيئ، أم أنها خطوات تهويلية لحصد مكاسب أكبر.
ولكن هذا لا يعني توقّف المشاريع الأمريكية، فواشنطن ستحاول إطالة أمد اللعب في الميدان حتّى تحصل على نتائج سياسيّة تصل إلى الحدّ الأدنى من تطلّعاتها. لبنان الذي انتصر في العام 2000 ونجح في تحرير لبنان، حاولت حينها وزير الخارجيّة الامريكية مادلين أولبريت الإلتفاف على الانتصار اللبناني عبر فرض شروط على الرئيس اللبناني حينها إميل لحود بالتنازل عن أراضي لبنانية وتسوية القضيّة، إلا أن لحّود “الرجل” صمد في السياسة كما صمد رجال المقاوم في الميدان، فسقطت المشروع الأمريكي حينها، وهذا ما نحتاجه اليوم.
المصدر / الوقت