سوريا وايران وروسيا جبهة متماسكة في ميزان القوى الدولي
تتشعب العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا قياسا مع حجم الخلافات المتنامية مع واشنطن، في ما يعني استمرار ما تسميه العاصمة الأميركية الإحتلال الروسي لجزيرة القرم في أوكرانيا منذ 2015، ولأجزاء واسعة من جورجيا منذ 2008، بالإضافة الى استمرار دعمھا لسوريا.
لكن، التفاھم بين واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية مستمر رغم الخلافات بينھما حول قضايا أخرى توصلا الى اعتباره مرحلة قد تطول أو تقصر قياسا على حجم ما يسمونه التزام روسيا ما تعھدت به تجاه تطورات الأزمة السورية الراھنة، فثمة حرص ثنائي على مواصلة التفاھم ومراعاة المصالح، بعيداً عما يحصل بين واشنطن وموسكو من تدھور كبير للعلاقات، وحرص على خلق وقائع على الأرض، بعيداً عن مشاريع وخطط للاعبين آخرين في الأزمة.
وستشكل ھذه الوقائع محركاً أساسياً لمفاوضات جنيف الشھر المقبل، فالقوات الأميركية وشركاؤھا شرق بلاد الشام وشمالھا يعملون على بناء “جيش وطني” ينطلق من مناطق الكرد للانخراط في الحرب على “داعش” والمجموعات المتشددة الأخرى. يعني ذلك أن وقف برنامج البنتاغون لتدريب وتسليح عناصر معارضة استعيض عنه بمشروع آخر، فالقوى التي رفضت حصر المواجھة بالتنظيم الإرھابي دون النظام ستكون خارج صفوف الجيش الجديد.. ويعني ذلك أيضا أن الصراع على الحدود السورية – العراقية يظل مفتوحاً، وستحدد معركة دير الزور التي يعد لھا الأميركيون، بعد الرقة، مآل ھذا الصراع، وقد ينخرط فيه الكرد وعشائر الفرات نزولا إلى مثلث التنف عند الحدود مع الأردن حيث القاعدة الأميركية – الأوروبية، وقد تشكل ھذه الواجھة الشرقية “منطقة آمنة” إضافية تساھم في ترسيخ الھدنة في الجبھة الجنوبية، ولا يستبعد تأھيل ھذا الجيش لاحقا ليشكل مع الفرق النظامية التي يبنيھا الروس المؤسسة العسكرية الجديدة.
سوريا وايران وروسيا جبهة متماسكة في ميزان القوى الدولي
سوريا وايران وروسيا جبهة متماسكة في ميزان القوى الدولي
السؤال هنا، لماذا أنھت واشنطن برنامج دعم المعارضين السوريين وماذا يعني ذلك؟!
إنھاء واشنطن برنامج دعم ” الثوار السوريين “، وھو برنامج استفاد منه 20 ألف مقاتل، ومنھم مقاتلو مجموعات مثل “الفرقة 13″ و”كتيبة حمزة” في الشمال الغربي والجنوب و”جيش أسود الشرقية” في الجنوب الغربي، ھو إقرار براغماتي بواقع عسكري، حدود قدرة “الثوار” على القتال وإطاحة الحكم السوري، وقرار أميركي بالتخلي عن سوريا لروسيا، وأبرز نتائج ھذا القرار خسارة واشنطن صدقيتھا في أوساط أذرعھا في الشرق الأوسط.
فإعلان دونالد ترامب وقف دعم قتال “الثوار” ضد الرئيس الأسد يعني أن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، ورأى بعضھم أنه تنازل أميركي أمام روسيا.. ولكن ھذا الحسبان في غير محله، فواشنطن اليوم تعتمد على روسيا في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وھي ترجح كفة انتشار قوات روسية في جنوب سوريا على كفة انتشار حزب لله والحرس الثوري في مناطق حدودية مع “إسرائيل”، وترى واشنطن و”تل أبيب” أن انتشار القوات الروسية ھو أھون الشرور، رغم أنه يقتضي تقديم تنازلات والنزول على مصالح روسيا.
وبهذا أصبح في وسع النظام السوري السيطرة على دير الزور في الشرق من دون أن يخشى ھجمات في مناطق أخرى، ومع إجازة واشنطن استعادة دمشق لدير الزور، تسلم الحدود العراقية السورية إلى الإيرانيين وتطلق يدھم في إنشاء الممر البري الذي لطالما تاقوا إليه بين طھران والمتوسط.. في وقت لا ترغب فيه “قوات سوريا الديمقراطية” قتال النظام ولا في الإمساك بأراض خارج المناطق الكردية، واليوم تدرك ھذه القوات -وتركيا ھي خصمھا اللدود- أن دعم واشنطن ليس مستداماً وليس مضموناً.. ويتساءل كُثر من قادتھا عما يلي سقوط الرقة وإطاحة “داعش”، والأغلب أن يتبدد الدعم الأميركي مع انتفاء الحاجة إلى “قوات سوريا الديمقراطية” وتحولها إلى مصدر خلاف فحسب مع تركيا، في وقت تحتاج واشنطن إلى تعاون أنقرة لضبط التوسع الإيراني في المنطقة، ومثل ھذه الظروف قد يحمل “قوات سوريا الديمقراطية” على التقرب من روسيا وطلب حمايتھا من تركيا.
والحق يقال، إن واشنطن ترجّح كفة الرئيس الأسد وحلفائه، والأشھر القادمة إلى نھاية العام الحالي مخصصة لاستعادة الجيش السوري شرق سوريا، في وقت إن 2018 ھو على الأغلب عام تدمير مخلفات جيوب المسلحين في الغرب، وفي مناطق التھدئة ووقف التصعيد، ولا خيار أمام “قوات سوريا الديمقراطية” غير تسليم الرقة للرئيس الأسد مقابل إدارة ذاتية غير رسمية في كانتوناتھا (أقاليمھا).
مصدر دبلوماسي أوروبي يرى أن استعادة الرقة قد تكون منعطفاً أو تؤذن بنھاية دور الغرب، وإذا اقتصر دور أميركا وحلفائھا على استعادة الرقة وترك أمر ادارة معقل “داعش” الى لاعبين يرجحون كفة نظام دمشق، بقيت المشكلة على حالھا ولم تذلل.
ويؤكد المصدر أن استعادة الرقة لا توجه ضربة قاصمة الى “داعش”، رغم أنھا مركز إعداد الھجمات، وتلك التي استھدفت فرنسا على وجه التحد، فالتنظيم سيواصل القتال والبحث عن ملاذات آمنة جديدة قد تكون أكثر عزلة، ونحن أمام بداية نھاية “داعش”، والتنظيم ھذا سيتحول ويتلوّن من جديد ويظھر في حلّة أو صورة جديدة، وعدد من مقاتلي “داعش” توجه الى إدلب مع عائلاتھم.
ويبدو هنا، أن المنتصر الأكبر في الحرب السورية هو بوتين، فھو بعث القوة الروسية في الخارج مقابل كلفة مالية وبشرية بخسة نسبياً، وارتقت بلاده لاعباً بارزاً في الشرق الأوسط.. فالروس يجھدون لترسيخ خريطة “مناطق خفض التوتر” وتوسيعھا، ولم يبق سوى شمال البلاد، أي إدلب وريفھا.. ومع ھذا التوسع يزيد انتشارھم في معظم نواحي البلاد وجبھاتھا، على أن يبقى الشرق والشمال الشرقي بأيدي الأميركيين وحلفائھم من عرب وأكراد، وفي اتفاق الغوطة الشرقية للعاصمة ثم في ريف حمص الشمالي كانت مصر ھي الشريك.
بالطبع يستجيب ھذا التطور ميل القاھرة إلى أداء دور في أزمة بلاد الشام، ويعنيھا أن تستعيد دورھا في الإقليم من الباب الذي يوفر لھا ھذه العودة، فھي لم تقطع العلاقة، السياسية والأمنية، مع النظام في دمشق، وھي تعرف أنھا لاعب يرغب فيه طرفا الصراع، فضلا عن اللاعبين الدوليين، الولايات المتحدة وروسيا التي أيدت تدخلھا.
إضافة إلى ذلك، يأتي إشراك مصر في إطار الھدف الاستراتيجي الواسع لروسيا، فھي رمت من تدخلھا في سوريا تثبيت أقدامھا شرق المتوسط، ثم تحويل قاعدتيھا في حميميم وطرطوس منطلقا إلى الشرق الأوسط كله.. لذلك جمعت في كلتا يديھا أطرافا متناحرة أو متنافسة لا يمكن الجمع بينھا، من إيران و”إسرائيل” وتركيا إلى دول الخليج ومصر، وخرجت من فضاء المشرق إلى شمال أفريقيا، إلى ليبيا التي كانت يوما مستودعا للترسانة السوفياتية في القارة السمراء كلھا، وأعادت تحريك دبلوماسيتھا للانخراط في أزمة اليمن لئلا تكون بعيدة عن أي تسوية سياسية في ھذا البلد، يريد الكرملين بوضوح استعادة ما كان للاتحاد السوفياتي أيام الصراع بين “الجبارين”.
أما أميركا فهي تُعول على بروز شقاق في الحلف الروسي – الإيراني في سوريا، ولكن قد يطول الأمر في انتظار وقوعه.. وعلى خلاف إيران، لا ترغب روسيا في تعكير علاقاتھا بـ”إسرائيل”، ولكن ثمة مصلحة تجمع بين طھران وموسكو، فبوتين يرغب في الاقتصاص ممن كان يحدد أسعار النفط ويدعم مالياً مجموعات قيدت القوة الروسية في الشيشان، فيما تلتزم إيران الصبر بعد فوزھا بھذه الجولة من فصول اللعبة الاستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط، فالمنتصرون ھم أصحاب استراتيجية متماسكة طويلة الأمد وھم قادرون على استمالة تعاون وكلاء وحلفاء محليين.
باختصار، اميركا وحلفائها في حالة ارباك وتراجع، بينما جبهة سوريا وايران وروسيا وحلفائهم ما زالت متماسكة وفي حالة تقدم من اجل تحرير سوريا من الارهاب والمحافظة على وحدتها في صيغة عملية متطورة.
سركيس ابو زيد