التحديث الاخير بتاريخ|الأربعاء, نوفمبر 6, 2024

الإمام الجواد.. تجسيد لقمة الإيمان وقوة النفس وثبات اليقين 

عندما بلغت الأمة مراحل الانفتاح على العالم الخارجي، بحيث بات من السهل انتشار الافكار والمعتقدات البشرية، وبدأ التطاول على الفكر الديني، واجهت الأمة، مشكلة في تحديد الإمام المعصوم والمفترض الطاعة، وذلك تحديداً بعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا(ع).
وهذا ما شقّ على المؤمنين الموالين لأهل البيت، عليهم السلام. فقد كان أمامهم صبيٌ لم يتجاوز من العمر، سبع أو ثماني سنين، وعلى الرغم من أنهم سمعوا تكريم الرضا لابنه الجواد، عليهما السلام، فهو يبقى صبياً في نظر عامّة الناس، ولم تمر الحالة الشيعية بمثل هذا المنعطف الخطير، بل لم تمر الأمة الإسلامية بمثل هذا الامتحان، فكيف ستنصاع رجالات الأمة وعلماؤها لصبي صغير؟!، لاسيما أن مثل هذه الحالة لم تكن مألوفة في الأوساط العربية على الخصوص.
بعض الباحثين والمؤرخين يقارنون بين الذي مرّت به الأمة في عهد الامام الجواد(ع)، وما مرّ على بني إسرائيل عندما بعث الله تعالى إليهم عيسى بن مريم، يكلمهم في المهد، وكما بعث إليهم، يحيى، فأعطاه الله الحُكم والكتاب وهو صبي، (وآتيناه الحكم صبيا)، فافترقت بنو إسرائيل في عيسى فِرقاً ، منهم من آمن به، ومنهم من كذبه وكان السبب في مطاردته، وبعضهم غالى فيه، وهكذا الحال في نبي الله، يحيى، والأمر نفسه حصل في إمامنا الجواد، عليه السلام.
من هنا كان الاتفاق على اجتماع ضمّ كبار الشيعة منهم الريان بن الصلت، ويونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى وآخرون، وخاضوا في الكلام حول المأزق الذي يمرون به حتى بكى بعضهم لشدة الحيرة. فقال يونس:
دعوا البكاء حتى يكبر هذا الصبي.
فقال الريان بن الصلت: إن كان أمر من الله جل وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله، فلو عمّر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة، ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه، وهذا مما ينبغي أن ينظر فيه.
هذا الوعي والنضج، وإن كان لدى شريحة محدودة من شيعة الإمام الجواد(ع)، إلا انها كانت النواة الطيبة لنشوء جيل من المؤمنين الصادقين والموالين الحقيقيين لأهل البيت، عليهم السلام. لكن الأمة لم تكن وحدها في هذا الامتحان، فقد كان للإمام الجواد(ع)، الدور الكبير في تربية هذا الجيل على القيم والمفاهيم الدينية، وتأصيل العلوم والمعارف، وإعطائها الهوية الاسلامية الحقيقية، وإحكام الربط بينها وبين القرآن الكريم، وسنة النبي الأكرم(ص). وهذا لم يكن لولا التصدّي الباهر لدور الإمامة مما أسكت المخالفين والمشككين. ورغم الفترة القصيرة التي عاشها الإمام عليه السلام، بين الأمة، وهي تتراواح بين ثماني وتسع سنين فقط، إلا أن التاريخ يقرّ للإمام حضوراً مشابهاً لحضور سائر الإئمة من حيث إثبات الإمامة والولاية وغزارة العلم والمعرفة.
وربما يكون هذا درساً للشباب، واصحاب الطموحات الكبيرة وهم في مقتبل العمر، فما يحملونه من طموحات كبيرة، هذا التحدي يعلمنا الإمام الجواد عليه السلام، كيفية تجاوزه.
فلما رأى الإمام(ع)، الحيرة على وجوه المؤمنين والناس بشكل عام، صعد المنبر في مسجد جده رسول الله(ص)، بعد رحيل والده وخطب في الناس قائلاً: «أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه، علمٌ منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك لقلت قولاً يعجب منه الأولون والآخرون”.
وبعد هذه المقالة، توافد عليه العلماء وأهل المنطق والكلام والحديث والتفسير، فسألوه وأكثروا في ذلك، فوجدوا أنهم أمام بحر واسع لا نهاية له من العلم والمعرفة، فكان يجيب على جميع الأسئلة دونما ضجر ولا ملل، بما فضّل الله تعالى عليه. ويؤكد المؤرخون أنه يجيب بشكل قاطع، دون تردد ولا تأنّي، وهذا تجسيد لقمة الإيمان، وقوة النفس وثبات اليقين، وهو ما يجب أن يقتدي به كل شاب طموح نحو ارتقاء مدارج العلم والمعرفة.
الإمام والمربّي
المعروف عند الناس، أن المربي والناصح والموجه، يكون في مرحلة عمرية متقدمة، كأن يكون شيخاً كبيراً أو على مسافة عمرية بعيدة عمن يتلقى النصح والإرشاد والتوجيه، بيد أن المعادلة في سيرة حياة الإمام الجواد(ع)، تختلف تماماً، فكان ابن الخامسة عشرة وربما أقل أو اكثر، وهو يتصدر المجلس ويجيب على أسئلة الناس بما يكرس لديهم القيم الانسانية والاخلاقية.
وعن الصبر على فقد الأحبة والأعزاء، ما ذكره «الكافي” أن الامام، عليه السلام كتب إلى رجل: «ذكرت مصيبتك بعلي ابنك، وذكرتَ أنه كان أحبّ ولدك إليك، وكذلك الله عزَّ وجلَّ إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله؛ ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة. فأعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وربط على قلبك، إنّه قدير، وعجّل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله تعالى”.
وهذا ما جسّده الامام الجواد، عليه السلام، وهو في ريعان شبابه، يتولّى قيادة الأمة، إماماً مفترض الطاعة. فقد عاصر الاِمام، عليه السلام، حمّى ظهور المذاهب الكلامية والعقائدية، وكانت آخذة بالانتشار في البلاد الاسلامية. والى جانب النزعات الانسانية للظهور والتسيّد، كان هنالك الاهتمام والحاجة من الحاكم للعب بالورقة المذهبية من جهة، وتربية جيل من وعّاظ السلاطين، يحقق من خلالهم طموحاته السياسية. فعاصر الإمام الجواد، عليه السلام، «الاعتزال” الذي ابتدعه المأمون العباسي، كما عاش تيارات فكرية عديدة، ابرزها «الجبرية” و”المشبّهة” و «الواقفية”، غيرها. ووقف منها موقف الشعاع المضيء الذي لم يترك لهم زاوية مظلمة إلا أضاءها وكشفها للناس أجمعين.
الشهادة المفجعة
في آخر ذي القعدة سنة 220هـ استشهد إمامنا الجواد بسم أمر به المعتصم العباسي حيث اتصل جعفر بن المأمون بأخته أم الفضل زوجة الإمام الجواد(ع) (وكانت أم الفضل تنقم من زوجة الإمام الأخرى أم الإمام الهادي عليه السلام) فاخذ يبث إليها سمومه وكلماته وشرح لها الخطة في القضاء على أبي جعفر(ع) فوافقت فأعطاها سما فتاكاً جعلته في طعام الإمام فلما أكل منه أحس بالآلام والأوجاع، ثم ندمت أم الفضل على فعلها وأخذت تبكي فقال لها الإمام: والله ليضربنك بفقر لا ينجي، وبلاء لا ينستر، فبُليت بعلة في بدنها فأنفقت كل مالها على مرضها هذا فلم ينفع حتى نفد مالها كله، وأما جعفر فسقط في بئر عميق حتى أخرج ميتا.
وأما الإمام عليه السلام فقد لحق بآبائه الطاهرين عليهم السلام في مقعد صدق عند مليك مقتدر».
المصدر / افاق

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق