التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, نوفمبر 17, 2024

التحول الدفاعي الاستراتيجي وأثره على منظومة الأمن القومي اللبناني 

على الرغم من أن رجال السياسة – وبحسب ما يُشير خبراء صناعة السياسات والدولة – دائماً ما يسعون لترسيخ غموض مفهوم الأمن القومي، وذلك خدمةً لمآرب سياسية ضيقة كالمناورة في سياسات الدولة الداخلية، والرهان على الصراعات والمعادلات الخارجية، فإن مفهوم الأمن القومي بحسب تعريفه المُعتمد علمياً، يُعبِّر عن قدرة الدّولة على تَأمين استمرار أُسس وركائز قوّتها الدّاخلية والخارجية، على كافة الأصعدة (الاجتماعية، العسكرية والاقتصادية..) وفي مُختلف جوانب الحياة لمواجهة المخاطر التي تهدّدها محلياً وخارجياً وفي حالتي الحرب والسِّلم. الأمر الذي يعني أن الجانب العسكري، يُعتبر أحد جوانب الأمن القومي، وليس صحيحاً ما يُشاع بالاعتقاد بأنه الجانب الوحيد. لكن التحديات التي تقع على عاتق الدول اليوم، وفي ظل الصراعات العسكرية القائمة في المنطقة، تفرض إيلاء الجانب العسكري الأولوية لما بات يُشكِّله من ضرورةٍ ترتبط بالأمن الوجودي. وهو ما باتت تعاني منه دول المنطقة خصوصاً في حربها على الإرهاب ومنها لبنان.

يقين المعنيين من أصحاب القرار ومعرفتهم بالواقع الجيوعسكري لمناطق الجرود، أثمر التسليم بضرورة خوض معركة جرود عرسال من قِبَل المقاومة

إنه ومن خلال النظر بدقة الى الواقع اللبناني الحالي، وما أثمره العمل العسكري للجيش اللبناني والمقاومة من نتائج ميدانية في معركة الجرود، وفي محاولة لدراسة أثر ذلك على الصعيد الاستراتيجي اللبناني محلياً وإقليمياً، وانطلاقاً من القناعة العلمية التي تعتبر أن الأمن القومي ظاهرة مُركبة ومعقدة ومتعددة الأبعاد والأطر، حيث ترتبط عدة علوم في دراستها كظاهرة، كعلم الاجتماع والاقتصاد ومنظومات الدولة والحكم والعلاقات الدولية والتخطيط والعلوم العسكرية، يمكن الخروج بعدة نتائج نُبيِّنها فيما يلي:

أولاً: إن التناغم العسكري بين حزب الله والجيش اللبناني، أعاد صياغة الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية من جديد، على قاعدة “الجيش والشعب والمقاومة”. وهي القاعدة التي تُشكِّل في الحقيقة نقطة قوة “الدفاع الاستراتيجي” الهادف لتقدير المخاطر المُحدقة بالدولة وتحديد هوية العدو، الأمر الذي يُعتبر الوسيلة العلمية والعملية والتي من خلالها يتم وضع “الاستراتيجية الدفاعية” التي تُحدد المنهج الإجرائي التنفيذي لتحقيق الهدف الدفاعي.
ثانياً: نجح لبنان في التجربة التي تُعتبر الأولى في تاريخه، في توحيد الجهود لمكافهة الخطر التهديدي، على الكيان والدولة. وهو ما يعني الخروج بنتائج عملية أثبتتها التجربة، تُؤكد أن المقاومة تتكامل في دورها الدفاعي مع الجيش اللبناني، وتُشكِّل الجهود المشتركة والتناغم العسكري، نقطة قوة لبنان الدفاعية في وجه أي تهديد من أي عدو.
ثالثاً: تُعتبر هذه التجربة من الناحية العسكرية الإجرائية، أحد أهم نتائج تجربة حزب الله العسكرية في سوريا. حيث امتهن حزب الله، القدرة على التنسيق الميداني بين منظومته العسكرية التي تتصف بالديناميكية والمرونة، وبين الجيوش الكلاسيكية. الأمر الذي استفاد منه حزب الله في تفعيل الدور العسكري المشترك بينه وبين الجيش اللبناني، لتُثبت التجربة أن هدف المقاومة من المشاركة في سوريا كان الدفاع عن لبنان، وليُثبت حزب الله من جديد، أن روح وجوهر سلوكه المقاوم ينسجم مع روح وجوهر وعقلية الدولة.
رابعاً: أخرجت التجربة الجيش اللبناني من القيود التي فرضتها عليه الحسابات الخارجية والتي كانت تنعكس على الواقع اللبناني، الأمر الذي حوَّل نقطة الضعف المتعلقة بحركة الجيش الدفاعية ودوره الى نقطة قوة استراتيجية. فقد حققت العملية خرقاً لقدرة الجيش اللبناني على القيام بمهامه الدفاعية، وأجبرت القوى الإقليمية والدولية على الرضوخ للمعادلة الجديدة القائمة على التنسيق الفعَّال الدفاعي بين المقاومة والجيش. حيث برز التكامل الميداني من خلال عمليات الإخلاء والإقتحام والإسناد. وهو ما توقّفت عنده الكثير من الدول وأدخلته في حساباتها الجديدة.

التناغم العسكري بين حزب الله والجيش اللبناني، أعاد صياغة الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية من جديد، على قاعدة “الجيش والشعب والمقاومة”

خامساً: نجحت الدولة في تأمين الاحتضان الأكبر لعملية التكامل بين دور الجيش والمقاومة في تحرير الجرود. حيث أن يقين المعنيين من أصحاب القرار ومعرفتهم بالواقع الجيوعسكري لمناطق الجرود، أثمر التسليم بضرورة خوض معركة جرود عرسال من قِبَل المقاومة، الأمر الذي كان مقدمة لتولي الجيش اللبناني معركة جرود القاع. وهو ما له العديد من الدلالات السياسية الحالية والمستقبلية وأنتج تحولاً في القرار الاستراتيجي الدفاعي اللبناني.
بالنتيجة، إن ازدياد معدل العنف في المنطقة، وتصاعد حدة الصراعات على المستويين الإقليمي والدولي، جعل من مهمة نسج السياسات التي تُعنى بمنظومة الأمن القومي أولوية لدى الدول. وهو الأمر الذي يمكن القول أن لبنان ومن خلال تجربته الجديدة والفريدة، بات يمتلك فرصة التقدم فيه على هذا الصعيد. فبَين الدفاع الإستراتيجي والإستراتيجية الدفاعية علاقة جدلية، حيث تُعبِّر الثانية عن ترجمة الأولى كخطة عمل تنفيذية. وحين تُصبح الإستراتيجية الدفاعية أحد ركائز الأمن القومي، يُصبح جدال البعض حول أهميتها محط تساؤل. فالأمن القومي بتعريفه التطبيقي كما يُشير هنري كسينجر، يُعبِّر عن السياسات التي يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء، وتسعى الدولة من خلالها الى خلق الظروف الملائمة لحماية القيم الحيوية. وهنا، فإن التجربة المشتركة والمُشرِّفة للجيش اللبناني والمقاومة في الدفاع عن لبنان، لا تُعتبر فقط، تحولاً هاماً في استراتيجية لبنان الدفاعية على صعيد القرار والتنفيذ، بل تُعتبر أيضاً، نموذجاً يُرسِّخ قُدسيَّة الحق الدفاعي والموجود قبل أن تنشأ الكيانات السياسية. فالتكامل في العقلية العسكرية بين الطرفين، ينبع من نفس القيم الوطنية المشتركة التي تربى عليها الجندي في الجيش اللبناني والمقاتل في حزب الله، والتي أثمرت العمل العسكري المشترك في الميدان من الهجوم الى الدفاع وصولاً الى إسعاف الجرحى والشهادة. كلها قيمٌ تُعبِّر عن ركيزة وجوهر ما يجب أن تحميه الإستراتيجية الدفاعية خدمة لمنظومة الأمن القومي اللبناني.
محمد علي جعفر
(باحث في إدارة المنظومات والشؤون الاستراتيجية)

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق