استراتيجية احتواء إيران: حين تُكرِّر أمريكا أخطاءها التاريخية!
شكَّلت التحولات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، نقطة مفصلية في مقاربة أمريكا للواقع السياسي والعسكري للمنطقة.
فيما تطفو على سطح الأولويات الأمريكية، السياسة الدولية تجاه إيران، والتي كانت على الدوام هدفاً استراتيجياً لواشنطن. فمن المعلوم أن أمريكا تُمارس ومنذ فترة استراتيجية الاحتواء في علاقتها مع طهران. لكن يبدو أن هذه الاستراتيجية فشلت، بحسب ما اعترف هنري كسنجر منذ أيام. فما هذه الاستراتيجية؟ وكيف تُطبقها واشنطن؟ ولماذا فشلت تجاه إيران؟
استراتيجية الاحتواء: النشأة والمفهوم
استراتيجية «سياسة الاحتواء» مفهوم يعود لفترة الحرب الباردة، صاغه عام 1947 المؤرخ والدبلوماسي «جورج كينان» والذي عمل كسفير للولايات المتحدة في موسكو. وتُصنَف هذه السياسة على أنها سياسة دفاعية، تهدف إلى استغلال نقاط ضعف العدو «الاتحاد السوفياتي حينها» وتحويلها الى فرص. وتنطلق استراتيجية الاحتواء من قاعدة أنه طالما لم يُبادر العدو الى الهجوم، فعلى واشنطن أن تعتمد الهجوم الاستباقي عبر سياسات ناعمة تستخدم الأطر الدبلوماسية والعمل الاستخباراتي ومفاهيم الرأسماليات الديمقراطية وأساليب الحرب السياسية والمنافسة الأيديولوجية، كتكتيكات لبناء استراتيجية بعيدة المدى تمنع العدو من توسيع نفوذه الإقليمي والدولي. وتُمارَس استراتيجية الاحتواء على عدة أصعدة أهمها الاقتصادي والسياسي. فيما يُشكِّل الاحتواء السياسي أساس هذه الاستراتيجية والذي تعتقد أمريكا أنه يجب ممارسته مع كلٍ من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وكوبا، ويتدرَّج الاحتواء السياسي ما بين الاستقطاب والتبني والاختراق والتطويق والتفريق والتهميش .
خدمت استراتيجية الاحتواء أمريكا حيث أمتهنت واشنطن استخدامها في حصار الواقع المعادي لها فاستطاعت إيجاد كل ما من شأنه تقليل أخطار الخصم أو العدو كما حصل مع الاتحاد السوفياتي عبر سياسات الإستيعاب والترويض. لكن نجاح فرضية كينان في أن الاتحاد السوفييتي سينهار من تلقاء نفسه بسبب تمدُّده الاستنزافي غير المراعي لحدوده الجيوسياسية، رسَّخ لدى واشنطن قناعة تكرار التجربة مع كل خصمٍ أو عدو!
لماذا فشلت سياسة احتواء ايران؟
لعل الفشل الذريع في قراءة الواقع والتاريخ الجيوسياسي للمنطقة، الى جانب الشعور الأمريكي بالغرور والعظمة، والذي دائماً ما يواكبه براغماتية في التنفيذ، دفع واشنطن لاعتبار هذه السياسة قابلة للتطبيق مع إيران. ما أفشل الرهانات الأمريكية، لأسباب عديدة، وشكَّل مدار بحثٍ بين العقول الأمريكية. فأين أخفقت هذه الاستراتيجية؟
أولاً: أخفقت أمريكا في أصل قراءتها وفهمها للطرف الإيراني. بل أخطأت في اعتبار حركة وسلوك السياسية الإيرانية «بعد انتصار الثورة» حركة مثيلة تُشبه حركات ونهضات دول الشرق الأوسط الأخرى التي استطاعت واشنطن احتواءها. وتعاطت مع التاريخ دون لِحاظ الفوارق الأيديولوجية، والمُنطلقات الفكرية والمبدئية للأطراف. الأمر الذي أوقعها في فخ الرهان على نجاح تجربتها تجاه بعض الدول العربية، فوقعت في معضلة فهم التاريخ والواقع.
ثانياً: انعكس سوء الفهم الأمريكي في تكتيكات واشنطن لإحتواء إيران. فقد اعتمدت أمريكا بشكلٍ أساس سياسات السلوك الإيراني، عبر تقديمه كنموذج للإرهاب والتركيز عليه كمنبع للخطر المهدِّد لدول المنطقة. وهو ما فشلت أمريكا في الرهان عليه أمام نجاح طهران في ممارستها للسياسة الخارجية ودفاعها عن حقوقها ومصالحها القومية دون أن يكون ذلك على حساب شعوب المنطقة. الأمر الذي أفرغ هذا التكتيك من جدواه. بل إن نجاح إيران في اعتمادها لمبادئ ثابتة في ممارستها للسياسة الإقليمية والدولية، أكسبها ثقة شعوب المنطقة، وجعلها النموذج القادر على لعب العديد من الأدوار، وهو نفسه ما فشلت أمريكا في تحقيقه.
ثالثاً: التكتيك الآخر الذي مارسته أمريكا لإحتواء إيران، كان اعتمادها اسلوب تبني طموحات الخصم أو العدو، بهدف التقرُّب من شعبه، وتضليل الرأي العام ضده. وهو ما مارسته أمريكا فيما يخص الاتفاق النووي. حيث ظنت واشنطن أنها من خلال ذلك، ستُحقِّق إمكانية احتواء القدرات التطويرية الإيرانية كنتيجة استراتيجية. فشلت أمريكا، بعد أن اكتشفت أنها ساهمت بفعل الإعتراف بإيران كطرفٍ دوليٍ نافذ.
إذاً، لا شك أن أمريكا تقف اليوم أمام نقطة مفصلية في مقاربتها للواقع السياسي والعسكري لملف الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أن دونالد ترامب التزم في قمة الرياض خلال شهر أيار المنصرم، احتواء الخطر الإيراني، خرج هنري كسينجر مطلع شهر آب الماضي، ليكشف جوانب من الفشل الخفي تُمثِّله البراغماتية الأمريكية. مُعترفاً أن العالم السياسي المعقَّد الذي نعيشه اليوم، يُبطل مقولة «عدو عدوي صديقي». مؤكداً أن نتائج الحرب الدولية القائمة ضد تنظيم داعش الإرهابي، ستُحدِّد خريطة القوى في المنطقة. والتي يبدو أن لا مكان لأمريكا فيها، حيث ستقطف الإنجازات «إمبراطورية إيرانية جديدة بدأت معالمها بالظهور»، والكلام لكسينجر. لنقول بالنتيجة أن من مارس فِعل الاحتواء، كان إيران وليس أمريكا.
بقلم / محمد علي جعفر