فرنسا ماكرون، ماذا تستثمر في قضية الحريري؟
الرهان الأكبر المقبل سيكون اليمن. فالسعودية التي فشلت في كل الساحات بعيداً عن حدودها، لا تتحمّل فشلاً على تلك الحدود. ومن هنا تخوض هناك الآن معركة مصير لا معركة هيمنة أو سلطة توسّعية. لماذا تقف فرنسا إلى جانب لبنان في قضية الحريري؟ وماذا يعني ذلك على صعيد التحوّلات الاقليمية والدولية؟
قبل أربع سنوات فقط كانت فرنسا هولاند تُساهم بحدّة في الحملة الغربية – العربية ضدّ حزب الله، والتي أدّت إلى وضع جناحه العسكري على قائمة الإرهاب. قبل يومين كان الرئيس الفرنسي ماكرون يقول إن السفارة الفرنسية تتواصل مع حزب الله في لبنان وإن أعضاء هذا الحزب هم لبنانيون كغيرهم.
قبل خمس سنوات كانت فرنسا هي التي تُطبِّل وتُزمِّر وتنسب كل الأعمال التدميرية إلى إيران وحزب الله في سوريا، بل وحتى تُدين وجود الحزب في لبنان. قبل يومين ردّ الرئيس الفرنسي على الاتّهام السعودي بشأن الصاروخ اليمني الذي ضرب مطار الرياض، بأنه ليست هناك أية أدلّة تدلّ على تورّط حزب الله وإيران.
قبل ست سنوات كانت معركة حادّة تدور بين سفير فرنسا في دمشق دومينيك شفالييه ووزير الخارجية ألان جوبيه، بسبب التقارير الواقعيّة التي كان يُرسلها الأول عن الوضع في سوريا، وما يريد وزير الخارجية تزويره في تلك التقارير. وهو ما أخرجه شفالييه إلى وسائل الإعلام بعد عودته إلى باريس. قبل أيام كان السفير الفرنسي في الرياض يفضح لوسائل الإعلام الظروف غير الطبيعية التي حصلت فيها زيارته للحريري في بيته، من حضور رجال أمن في الخارج والداخل وارتباك الحريري وانعدام حريّته. فيما كان شفالييه آخر (أورليان)، وهو المستشار السياسي للرئيس، يحل موفداً على قصر بعبدا لبحث موضوع احتجاز رئيس الوزراء. ومن وراء ذلك الأزمة التي يُراد جرّ لبنان إليها.
وحده جان إيف لودريان، وزير الخارجية، بدا وكأنه ما يزال في عصر الانحياز إلى السياسة السعودية، فخرج في اليوم الأول بتصريح يقول فيه إنه لا يعتقد أن الحريري ليس حراً. لكنه لم يلبث أن أدرك – أو تم إفهامه – بأن موقف بلاده غير ذلك، فخرج بعدها يُصرِّح لثلاثة أيام على التوالي بأن الحريري يجب أن يعود إلى لبنان وأن يتمتّع بحرية الحركة. كما أعلن أن لودريان سيحمل مبادرة فرنسية إلى الرياض، قبل أن يتّخذ قرار التوجّه إلى الأمم المتحدة.
التوجّه إلى الأمم المتحدة، تدويل الأزمة، قد يبرّره لبنان بأن احتجاز الحريري يشكّل خطراً على السِلم والأمن وتهديداً للاستقرار، وهذا ما قد تتضمّنه الرسالة التي حملها باسيل إلى باريس. وعليه يمكن لفرنسا أن تدعو إلى اجتماع، يُطلق مواجهة في مجلس الأمن، بين لبنان والسعودية بحماية فرنسية للأول. وعليه هاتَفَ ماكرون غوتيريس وتحدّث حول “مبادرات يمكن اتّخاذها في إطار الأمم المتحدة” كما قال بيان الإليزيه. ثم التقاه يوم الأربعاء.
قرار لم يُتّخذ إلا بعد ثلاث زيارات: زيارة ساركوزي كمبعوث رئاسي للسعودية، وزيارة السفير للحريري وأخيراً زيارة ماكرون إلى أبو ظبي والسعودية. فهل حصلت كلها لأجل الحريري أم لأجل مصلحة فرنسية عُليا؟ ولماذا قالت دوائر الرئيس إن ابن سلمان غير مُهتّم للوساطة الفرنسية وأنه رفض زيارة أيّ مسؤول لبناني لبحث ذلك؟ وحتى إذا كان التهديد بالتدويل من باب التهويل، ليس إلاّ، فما الغاية منه؟
كما في جميع الدول، ثمة دوائر أنتلجنسيا تصوغ القرار، ومن أهم هذه الدوائر أجهزة الاستخبارات الخارجية. لذلك تحوَّل لودريان بعد اجتماع عباس إبراهيم مع برنار إيميه، رئيس هذا الجهاز المعروف ب( DSET ). عِلماً بأن إيميه يعرف المنطقة جيّداً حيث كان سفيراً في أكثر من بلد عربي منها لبنان والأردن والعراق؟
وما علاقة المعلومات الأمنية بتصريح الرئيس أنه سمع في أبو ظبي بخصوص إيران “مواقف قاسية لا أشاركها ولا اتّفق مع سياسة شديدة الغلوّ”؟ خاصة وأن هذا التصريح يتناغم مع ما ورد في خطابه أمام الجهاز الدبلوماسي الفرنسي، قبل أشهر، من أن “سياسة فرنسا ينبغي ألا تكون أسيرة فئة مُحدَّدة في الشرق الأوسط”، ما يعني طبعاً أن مصالح فرنسا ينبغي ألا تكون أسيرة فئة مُحدَّدة؟
مفتاح الجواب يكمُن في ثلاثة أمور:
الأول: عبارة خرجت من المتحدّثين الفرنسيين “فشل المُراهنة على صفقات السلاح”. (فهل هذا ما حاول الزائرون الفرنسيون ترتيبه وفشلوا فرفعوا السقف)؟
الثاني: تبدّل المعادلة الاقليمية الشرق أوسطية بحيث تفرض مُراهنة كبرى، بديلة وأكثر ضخامة، على صفقات أخرى، يفرضها تحوّل ميزان الحرب السورية باتجاه الحكومة، التي ستشرف على إعادة الإعمار وعلى استخراج الغاز. وهو رهان لا يقع لبنان خارجه، ولا تريد فرنسا أن تكون خارجه، بالطبع.
الثالث: إمكانية تحوّل إيران بعد هذا الحسم السوري إلى ذاتها، من حيث إعادة الإعمار بكل أبعاده أيضاً. وتحفّز أوروبا للمساهمة في ذلك. ما يفسّر أيضاً التصعيد الأميركي للحصول على حصّة الأسد في ذلك أو على الأقل على ترضية. وفي هذين الرهانين الثاني والثالث اختلال كبير في كفّة الميزان لا يصبّ بالنسبة للأوروبيين، في صالح السعودية والإمارات، خاصة بعد أن خسرتا قطر. وبعد أن تبيّن أن خيرهما لن يصبّ إلا في واشنطن. من هنا يظلّ السؤال الخطير مشروعاً: هل سيمارس ماكرون أقصى أساليب الضغط على السعودية ، بالذهاب إلى الأمم المتحدة ، ليعود فيشتري بهذا الضغط مصالح لم يستطع أن يحصل عليها بالوساطة ؟ وماذا سيُحصِّل لبنان اللّهم إلا كرامته التي ستتمثّل بعودة الرئيس وتقديمه لاستقالته حسب الأصول، ومن ثم … المجهول.
الرابع: إن الرهان الأكبر المقبل سيكون اليمن. فالسعودية التي فشلت في كل الساحات بعيداً عن حدودها، لا تتحمّل فشلاً على تلك الحدود. ومن هنا تخوض هناك الآن معركة مصير لا معركة هيمنة أو سلطة توسّعية. خاصة وأن معركتها مع قطر جعلت سلطتها الخليجية تهتزّ من دون أن تتمكّن من حسمها لا عسكرياً ولا سياسياً. بل تحوّلت الإمارة الصغيرة إلى بديل لدى الإيراني والتركي وربما غداً اللبناني …. وفي الدولي، لدى كثيرين، منهم الألماني والفرنسي. وهنا تبرز أهمية تحجيم حزب الله عبْر احتجاز الحريري رهينة. فالإصرار على عبارة تعهّد الدولة اللبنانية وحزب الله نفسه بعدم التدخّل في الشؤون العربية، لم يعد يعني سوريا – هناك تدخّل وانتهى الأمر ويشرف على العودة – بل يعني احتمالات تدخّل لا يُراد له أن يؤدّي إلى مصير الصراع على سوريا.
السؤال الأخير: هل كان لكل هذه الصراعات والمُراهنات أن تحصل لولا اهتزاز عرش الأحادية الأميركية؟، هل إن هذا الاهتزاز شجّع أوروبا على البحث عن مصالح تأخذها بالعقْد المباشر لا بعقود الباطن؟ .
بقلم: حياة الحويك عطية