ماذا تريد السعودية؟
لو تساءل صحافي ما قبل سنوات عن احتمال إقدام السلطات السعودية على احتجاز الرئيس الحريري أو أي شخصية من تيار المستقبل لنعت بالجنون وبالتخريف، فالتيار كما الزعامة الحريرية هما ثمرة استثمار سعودي طويل انطلق في السبعينات مع بدايات الحرب اللبنانية. وقد كانت تجربة ما بعد الطائف ميدانا يبرهن على درجة ولاء المستقبل والحريرية للمملكة، واستعداده للانخراط هجوميا في خطط ومشاريع وتوجهات سعودية، جلبت أضرارا ومساوئ كثيرة على لبنان .
الواضح في أزمة اختطاف الرئيس سعد الحريري وعائلته أن السلوكيات السعودية خرجت عن طورها، وباتت قصيرة النفس، تتسم بالاستعجال والرعونة، والأمر ليس مقتصرا على التفسير الرائج نتيجة المزاج الحاد والطباع القاسية لولي العهد الجديد محمد بن سلمان، بقدر ما هو، قبل ذلك ومعه، تعبير عن مأزق ضيق الخيارات والخسائر اللاحقة بالمملكة وحليفها غير المعلن، الذي استندت إليه وعملت معه لعقود طويلة في الخفاء، رغم تلبّس العداوة أحيانا، أي إسرائيل، التي تسعى الرياض مؤخرا لشراء حرب جديدة منها تُشن ضد لبنان.
الوضع الإقليمي الجديد بات مخيفا وموحشا للمملكة، منذ انهيار هيبة الردع الصهيونية، وظهور التقهقر النوعي المتصاعد في المكانة الأميركية في العالم والمنطقة خصوصا. ولم يعد التعامل مع الأوضاع المتحولة سريعا بيسر ما كان عليه في عقود ماضية.
الغضب على حزب الله ومنه ناتج عن دوره في تغيير وجه المنطقة. فالحزب التزم من سنوات بعدم التدخل في أوضاع المملكة الداخلية. وكان تدخله الرئيسي نصح أبناء شبه الجزيرة العربية المعارضين بالمرونة والصبر، وبالامتناع عن التورّط في ممارسة العنف، رغم شراسة القمع .
حزب الله قدم نموذجا لقوة شعبية مقاتلة ومناضلة، كسرت التفوّق الصهيوني، وساهمت بجدارة في دحر العدوان على سورية والعراق ولبنان، بواسطة داعش والقاعدة وحشود الارهاب متعددة الجنسيات. وكانت المملكة على الجانب الآخر، سياسيا وإعلاميا وعسكريا، تدعم وتموّل وتجلب آلاف أطنان السلاح بطائراتها التجارية .
حزب الله مفتاح عقدة سعودية لخيبة ثقيلة. فهو أنهى ذريعة التفوق الصهيوني القاهر، التي غُلفت بها مشاريع الاستسلام، وهو نموذج تستلهمه قوى حية كثيرة في الواقع العربي، كما الحال في العراق واليمن. وهذا الحزب أيضا بات يشكل، مع القوة السورية الناهضة وبالتحالف مع ايران وروسيا، كتلة تغيير استراتيجية وتاريخية في المنطقة برمتها.
إسرائيل التي تلمس الخطر المتعاظم، تعيش في قلق الاحتماء خلف الجدران. وهي كانت العصا، التي يحصد قادة السعودية ثمار رهبتها، فإذا هي تتحول الى قوة مردوعة، بينما لا تملك هي نفسها خططا مضمونة لحرب تقلب الطاولة، لا ضد ايران، ولا ضد سورية ولبنان. وقد اضطرت لمتابعة فصول التواصل السوري – العراقي، الذي منعته مع بريطانيا لنصف قرن مضى، وانهار دفعة واحدة مع اندحار داعش، الاستثمار السعودي – الأميركي – الصهيوني المشترك.
بينما استنفذت المملكة طاقتها على محاولات فاشلة متكررة لتعديل التوازنات في اليمن، ومن قبل في سورية والعراق، حيث رمت بثقلها خلف عصابات الإرهاب والتوحّش، باتت تختنق في خيبة ثقيلة. وقد حاولت أن تغيّر الوضع اللبناني. وهي بالأصل اضطرت مع التوجيه الأميركي، للتكيف مع انتخاب الرئيس ميشال عون، الوطني السيادي والداعم للمقاومة، وليس صحيحا أنها تفاجأت بانخراط الرئيس الحريري في تلك التسوية، بل إن الحريري كرر القول جهارا أنه لا يجد سبيلا لحماية مصالحه المالية والسياسية غير العودة الى رئاسة الحكومة، والطريق الاجباري لذلك، هو التفاهم مع العماد عون، فانتخابه رئيسا.
لم تنفك تل أبيب في الأشهر الماضية تهاجم التسوية اللبنانية، وتعتبرها غطاء سياسيا رسميا لحزب الله ولقوته المتعاظمة، وهي تطالب الولايات المتحدة والمملكة بموقف، وهو الأمر الذي قاد خلال الأشهر الماضية الى مسلسل العقوبات المالية والبيانات النارية وقرارات متلاحقة ضد الحزب .
صبت السعودية جام غضبها على الحريري وسائر القوى، التي أغدقت عليها المال لعقود طويلة وحمّلتها مسؤولية الفشل في منع تصاعد قوة حزب الله، واختارت بالتناغم مع المطلب الصهيوني المتمثل بسحب التغطية عبر السعي لفرض الانقلاب على التسوية، ووضع خاتمة لإستمهال الحريري ولاحتوائه الضغوط والمطالب المتلاحقة، بشرح خصوصيات الوضع اللبناني وباستعصاء توازناته، وضرورة التعامل المرن مع الظروف ومراعاة تفاهماته مع رئيس الجمهورية، بما في ذلك موضوع العلاقة بسورية واستمرار الحوار مع حزب الله.
في ظل العجز الناتج عن مأزق خطير، وتحت تأثير الإلحاح الصهيوني، استبدّت الهستيريا بصانع القرار السعودي، وضرب خبط عشواء، فهزّ الهيكل، الذي بناه من نصف قرن، وأقام عليه منظومة علاقات ونفوذ داخل لبنان. وكانت الصدمة الأفظع في التضامن الوطني، الذي قاده الرئيس ميشال عون والرئيس نبيه بري وقائد المقاومة السيد حسن نصرالله. وحرّك التماسك اللبناني تداعيات مقلقة للرياض ولعلاقاتها الدولية، والحصيلة المحققة باتت لصالح لبنان، بغض النظر عن مصير الأزمة الحكومية.
بقلم / غالب قنديل