تأمّل في الاستراتيجية الروسية تجاه الشرق الأوسط
مع انطلاق الحملات الجوية الروسية على الأراضي السورية في أيلول سبتمبر 2015م بدأت فعليا مرحلة جديدة من التدخل الروسي المباشر في منطقة الشرق الأوسط. تدخّل فاجئ الغرب على رغم أن المصالح الاستراتيجية للقطب الروسي في المنطقة تبرّر ما حصل.
يسلّط هذا المقال الضوء على ثوابت السياسة الروسية في المنطقة من خلال الإشارة إلى العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التي تربطهم مع دولها وصولا إلى استشفاف الاستراتيجية المتّبعة والعوائق التي تعيق تحقيقها.
ثوابت السياسات الروسية اتجاه الشرق الأوسط
في الواقع إن استراتيجية الأمن القومي الروسي تنظر إلى آسيا وأوروبا بدرجة أكبر من الاهتمام منه بالشرق الأوسط. هذا الأمر جعل دول المنطقة تأخذ أولوية ثانية بالنسبة لهم. ولكن هذا الأمر لم يمنع الروس من الاهتمام التكتيكي بالمنطقة من أجل تأمين استقرارها الذي ينعكس إيجابا على السياسة والاقتصاد الروسي.
الأمر الذي طرأ خلال السنوات الماضية هو دخول لاعبين متطرفين إلى الساحة، لاعبين يشكلون أخطار وتهديدات حقيقية على الروس في المستقبل بسبب الخلاف العقائدي الأيديولوجي العميق، إضافة إلى زيادة مستوى التدخل الأمريكي الذي يحاول تحاشي وصول الغاز الروسي إلى القارة الأفريقية عبر المنطقة. هذه الأمور زادت من اهتمام الروس وجعلتهم (ولو تكتيكيا) يقدمون على التدخل العسكري المباشر في سوريا منعا لسقوط النظام القائم.
بدأ الروس اليوم تثبيت وجودهم العسكري في سوريا بشكل ملحوظ بهدف وضع الأمريكيين أمام تحديات حقيقية في المستقبل. ولكن ورغم ذلك ليس من الواضح وجود استراتيجية إزاء المنطقة ومدى استعدادهم للمواجهة.
العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية
التدخل العسكري المباشر في سوريا له ارتداداته الأكيدة على المصالح الاقتصادية والسياسية للروس في المنطقة. فهم حجم هذه المصالح وطبيعتها إضافة إلى العوائق الموجودة ضروري لفهم الصورة كاملة.
الواقع تمكن الروس من بناء علاقات وطيدة لهم في المنطقة، ولكن لا يمكن وصف دول المنطقة أنها من حلفاء روسيا الثابتين. كما أن لروسيا مصالح مع دول وأطراف هناك نزاع فيما بينها ولا يمكن للروس أن يشكلوا حلقة وصل أو صلح فيما بين هذه الدول. على سبيل المثال العلاقة الجيدة نسبيا ما بين روسيا الكيان الإسرائيلي وفي المقابل هناك من الأسباب ما يكفي لتوطّد روسيا علاقاتها مع إيران وسوريا.
الأمر الآخر الذي يحدّ من حركة الروس هو أن معظم دول المنطقة (باستثناء إيران وسوريا) يريدون العلاقات الجيدة مع الروس دون توتير علاقاتهم مع القطب الآخر أي أمريكا. هذا يعقّد الأمور.
أما عن المصالح الاقتصادية الروسية فهي ورغم أن حجمها قليل نسبيا في الوقت الحالي مرشحة للتزايد في المستقبل القريب. وهي مصالح بالأساس تتركز في قطاعين رئيسيين الأول الطاقة (نفط وغاز) وقد استثمرت الشركات الروسية في هذا القطاع بالفعل. والثاني وهو لا يقلّ أهمية عن الأول وهو الصناعات العسكرية الروسية التي تتمتع بموقع مهم حاليا ومرشحة للتطوّر مستقبلا.
خلاصة: هل من استراتيجية حقيقية؟
هناك ثلاث رؤى مختلف حول هذا الأمر الرأي الأول يقول: نعم تمتلك روسيا استراتيجية واضحة اتجاه المنطقة وقد نجحت بشكل جيد إلى اليوم في تنفيذها.
الرأي الثاني يقول أنّ الروس يمتلكون استراتيجية واضحة ولكن وعلى رغم نجاحهم في الساحة السورية إلا أن برامجهم لم تنجح في كثير من المواضع الأخرى.
الرأي الثالث والأخير يقول إن الروس لم ولا يمتلكون استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط، بل إن برامجهم إلى اليوم هي عبارة عن ردّة فعل تكتيكية لا ترقى إلى مستوى الاستراتيجية الطويلة الأمد.
على كل حال، اليوم وبعد التحوّل الكبير في السياسة الروسية والتدخل في سوريا، باتت الأخيرة ملزمة باتباع استراتيجية واضحة. خاصة أنها أدركت وبالتجربة قدرتها الكبيرة على التأثير في مجريات الأحداث. وهذا الأمر مرتبط أيضا بعملية التأسيس التي قام بها بوتين منذ تسلمه زمام الحكم للمرّة الأولى، فوضع نصب أعينه إعادة روسيا إلى موقعها في العالم كقطب مؤثر على مساحة خارطة العالم وليس مجرد قوة إقليمية مؤثرة في المحيط القريب لها. في هذا الإطار أخذ الروس يخطون خطوات أكثر جرأة من السابق كتسليم دول مثل إيران وسوريا منظومات دفاعية تزيد التحدي للغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص.
المطلوب اليوم استثمار هذه القدرات الروسية والاستفادة من التجربة السورية ومحاولة تعميمها على دول أخرى في المنطقة. وإلا فإن اللاعبين الكبار وعلى رأسهم أمريكا ستعود لقضم مصالح روسيا مجددا عبر السياسات الناعمة والتي أجدت نفعا في كثير من الأحيان ضد روسيا.
المصدر / الوقت