بين سلطة العشيرة وسلطة الدولة !!
عبدالرضا الساعدي
أحيانا ، يحار الواحد منا كيف يعبّر عن بعض الحقائق ومجريات الواقع السائدة في البلد ، بعد 15 عاما تقريبا من التغيير السياسي ، عندما تصبح كفّة القانون ليست هي الراجحة ، وعندما يصبح منطق القوة المجتمعي والانفلات ومعايير الفوضى هي الحاكمة والفيصل في مجرى حياتنا اليومية .
بعد 2003 ، أي بعد غياب الدولة وانهيار معظم المؤسسات ، وأهمها المؤسسة العسكرية ، وتمركز قوات الاحتلال كي تشغل الفراغ الحاصل ، كانت الفوضى هي العنوان الرئيس لهذه المرحلة ، كسياسة مقصودة من قبل المحتل الأمريكي الذي سمح لكثير من اللصوص وقطاع الطرق والمجرمين والفوضويين بأن يتحركوا وينشطوا ويمارسوا مختلف عمليات الخطف والقتل والسرقة ، أمام أنظاره ، مستثمرا جهل الكثيرين ، ونوايا الشياطين كافة ، في الداخل والخارج، المتربصين بالبلد والناس الأبرياء ، ليصبح الوطن مسرحا منوعا للرعب والانفلات وغياب القانون بشكل لا يصدق .. لتعقبها مرحلة هي الأخطر في حياتنا اليومية ، وهي تأجيج الصراع بين المكونات المجتمعية على أسس مذهبية وطائفية وعرقية .
هذه بعض تراكمات خلّفتها سياسة عدوانية أمريكية صهيونية أرادت إضعاف البلد وتجريده من أمنه وأمانه وثروته وتراثه ، وبالتالي تقسيمه إلى مناطق وأقاليم متناحرة متضادة ، بدلا من بقائه موحدا قويا متماسكا ، ومن ثم زرع الضغائن والحقد والمشاكل بين مكونات المجتمع المختلفة ، أو بين العشائر المتعددة ، بل وصلنا حتى إلى الخلاف داخل العشيرة الواحدة ،لأسباب شتى ، أهمها غياب سلطة الدولة والقانون .
هكذا بدأت المقدمات ، وهكذا أصبحت النتائج ، ولأن العراق بلد مختلف المكونات والمذاهب والعشائر ، ولأن البنية الأساسية للمجتمع ، بنية قبلية عشائرية ، ينظر الفرد إلى عشيرته بوصفها ( سلطة ) أو ملجأ لحل الكثير من المشاكل اليومية ، حين يلتفت عن يمينه وشماله فلا يجد سلطة أخرى أقوى منها ، أو ملجأ آمناً ومضموناً يؤوي إليه لحل مشاكله المختلفة ، في الجانب الآخر ، ترى الدولة في العشيرة ، في مرحلة من مراحلها غير المستقرة ، أنها حل من الحلول الآنية لكثير من الأزمات والمشاكل والمعضلات التي تعجز عن معالجتها بعض مؤسساتها غير الراسخة لحد الآن ، لنجد أنفسنا شيئا فشيئا أمام واقع مفروض يحكم قبضته وشروطه على الجميع ، لاسيما حين تتلكأ مؤسسات الدولة كثيرا في فرض سلطتها التنفيذية والتشريعية على المجتمع ، وحين يعم الفساد أيضا هذه المؤسسات ، وبالتالي تعلو كفة السلطة العشائرية والقبلية على الجميع ، ورغم العديد من الإيجابيات التي تمتعت بها (سلطة) العشيرة في معاونة الدولة في مرحلة ضعفها وعدم استقرارها ، وفي معاونة الفرد والمجتمع نفسه في تجاوز المعضلات والأزمات اليومية التي تعصف بحياتنا ، فإنها في الجانب الآخر أصبحت (دولة) داخل الدولة ، بل وأقوى منها في كثير من الأحايين ، لاسيما وهي مزودة اليوم بمختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وحتى الثقيلة !!! ما يسفر أحيانا بمواجهات متقابلة مضادة بين العشائر المتناحرة ، ولأتفه الأسباب ،والأخطر من هذا ربما المواجهة مع الدولة الحاكمة نفسها ، بمعنى حرب على القانون وسيادة القانون ، ومن ثم غياب الأمن والاستقرار ، بدلا من أن تصبح العشيرة مركز إسناد وتوازن واستقرار يمكن استثماره لصالح الدولة والمجتمع .. ولا نريد أن نتطرق إلى التفاصيل والأحداث اليومية الحاصلة في أرجاء محافظاتنا الجنوبية الكريمة التي تشهد بين الحين والحين نزاعات وأزمات تعجز الدولة عن حلها في الغالب ، لتصبح لغة السلاح والقوة والدماء هي السائدة للأسف .. بينما يشعر المواطن بالهوة التي تزداد اتساعا بين سلطتين ، سلطة النظام وسلطة العشيرة ، بين سلطة القانون شبه الغائبة، وسلطة الغاب الحاضرة .
الصورة تكبر باطراد ، والمشهد يتفاقم دونما أفق قريب للحل ، على الرغم من جهود تبذل من أطراف مدنية ودينية لتضييق الفجوة ، وفرض منطق العقل والحكمة ومن ثم إتباع القانون كإجراء وسياسة وسلوك طبيعي يحكم المجتمعات المتحضرة والمتعلمة ، ولأننا أمام مرحلة انتخابية قادمة ، ينبغي التركيز على هذا الأمر ، وتحريك مشروع مهم وكبير يتعلق بفرض سلطة الدولة ، كمشروع تنويري وتنفيذي معا ، على مختلف الصعد والمستويات ، وتنظيم عمل المؤسسات المعنية بثقافة القانون وتشريع ما يلزم لسيادته على الجميع ، مسؤولا كان أم مواطنا بسيطا ، كما ينبغي على الإعلام ومؤسسات المجتمع والمؤسسات الدينية والشخصيات المهمة المؤثرة في المجتمع ، أن يكونوا ضمن هذا المشروع التنويري والإجرائي الكبير ، وليس ذلك مستحيلا أبدا على شعب واجه أبشع وأقسى قوى الظلام والإرهاب ، بل ستكون العشائر الطيبة نفسها مشاركة في هذا المشروع بلا شك ، لأنها قدمت دماءها وتضحياتها الكبيرة في معركة العراق ضد داعش الإرهاب والظلام والتخلف ، من أجل وطن قوي وآمن ، ومن أجل دولة حقيقية تحمي مصير الناس وترعى مصالحهم وحقوقهم الطبيعية .