الولايات المتحدة وجدلية البقاء والخروج من سوريا
لا تبخل واشنطن على دول الشرق الأوسط بإدخالها في دوامة سياسية وعسكرية، حتى لو لم تكن معلومة النتائج، فالولايات المتحدة تعشق اللعب في أرض الخصم وتخريبها وتصفية حساباتها مع منافسيها وإلهائهم قدر المستطاع، خاصة إذا كانت تمرّ في مرحلة ضعف داخلية أو خارجية كما هو الحال بالنسبة لها حالياً.
أمريكا في الوقت الراهن تدّعي أنها تبحث عن مخرج لها من الأزمة السورية، وتريد سحب قواتها من هناك بأسرع وقت ممكن، لكن هذا الكلام الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية والذي جاء عبر مكالمة هاتفية كان قد أجراها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مع الملك سلمان، خلال شهر ديسمبر الماضي، يتناقض مع نشاطها الفعلي على الأرض السورية والذي تكلمت عنه مراراً وتكراراً عبر متحدثيها في البيت الأبيض ووزرائها ومندوبتها في مجلس الأمن فجميعهم تحدثوا عن رغبة واشنطن بالبقاء في سوريا لأطول فترة ممكنة، لا بل وتشكيل جيش قوامه 30 ألف مقاتل في الشمال السوري، وهذا ما جعل أنقرة تلتهب وتنتفض مسرعةً لتقتحم حدود سوريا من بوابة عفرين لتحطيم المشروع الأمريكي مهما كلف الثمن وحماية مشروعها وأراضيها من خطر الأكراد المدعومين أمريكيا كما تدّعي، وما زالت ماضية حتى اللحظة، حيث أصبحت على أعتاب عفرين، فهل لهذا الكلام علاقة بنشر الأخبار الجديدة عن نية واشنطن بالخروج من سوريا أم تحضر للعبة جديدة كشفت وزارة الدفاع الروسية عن بدايتها اليوم، حيث صرحت بأن واشنطن تحضّر لتوجيه ضربات ضدّ أهداف حكومية سورية باستخدام صواريخ كروز المجنحة.
دعونا الآن نتحدث عن الشق الأول من السؤال، والذي انتشر كالنار في الهشيم في الصحف العربية والعالمية، خاصة وأنه يتزامن مع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أمريكا الاثنين المقبل؛ التقرير الجديد الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” اليوم، كشف عن كواليس المكالمة التي أجراها ترامب مع الملك سلمان وولي عهده في ديسمبر/كانون الأول، الماضي، والتي طرح خلالها ترامب فكرة تعجيل خروجهم من الحرب في سوريا.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين أمريكيين، لم تكشف عن هويتهم، أن ترامب تقدم بطلب إلى الملك سلمان وولي عهده طلب فيه 4 مليارات دولار، لإنهاء الالتزامات الأمريكية في سوريا وتعجيل خروجها من الحرب السورية، وأوضح المسؤولون أن البيت الأبيض أراد الأموال من السعودية، كما تقدّم بنفس الطلب لدول أخرى، للمساعدة على إعادة إعمار وترسيخ الاستقرار في الأجزاء السورية، التي تمكّنت القوات الأمريكية وحلفاؤها المحليين من تحريرها.
يجب أن نركز على موضوع “إعادة الإعمار” في الكلام المنشور، لأنه وعلى ما يبدو لن تتمكن أمريكا من البقاء على الأراضي السورية لفترة طويلة إلا عبر هذه البوابة، فواشنطن أكثر من يعلم كم ستدفع ثمن بقائها في سوريا من جميع النواحي، وهي لا تريد أن تكرر تجربة العراق، لذلك آلية “حلب السعودية” والدخول من بوابة إعادة الإعمار هي الحل الأمثل لبقاء نفوذها هناك، خاصةً وأن من تدعمهم من المعارضة المسلحة يتهاوون أمام ضربات الجيش السوري ويخسرون أهم مناطق نفوذهم ومراكز ثقلهم، وما يحدث في الغوطة الشرقية حالياً يخبرنا عن الحالة المتردية التي وصل إليها أنصار أمريكا في سوريا.
أمريكا أصبح لديها قناعة تامة بأن إسقاط النظام السوري أمر مستحيل، خاصة أن الأخير بات يسيطر على أغلبية أراضي البلاد وبيده كبرى المدن من دمشق مروراً بحمص والساحل وصولاً إلى حلب ناهيك عن درعا والسويداء وغيرها، لذلك الحل الأمثل للبقاء الأمريكي هو إعادة الإعمار من “مطمورة” الملك السعودي الذي لا يبخل على ترامب بالعطايا المالية، وبهذا يكون ترامب قد أعاد السعودية من جديد إلى دائرة الأزمة السورية بعد أن كانت قد خرجت منها بخفي حنين، وفي نفس الوقت يدغدغ لها وجعها الدائم وهو “محاربة النفوذ الإيراني” في المنطقة، كما أنها تعمل على إشغال روسيا في ملف جديد، حيث لا يخفى على أحد القوة والقدرة التي أصبحت تملكها روسيا في سوريا بعد أن تحالفت مع إيران في سوريا وقامتا كلتاهما بدعم الحكومة السورية سوياً لتصبح الكرة في ملعبهما تصوبانها على المرمى الذي تريدانهما.
بالعودة إلى الأموال التي طلبها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب من العاهل السعودي، نجد أن الحاجة إليها تصبّ في نفس فحوى الكلام الذي ذكرناه في الأعلى، حيث ذكر مسؤولون أمريكيون أن هدف ترامب من تلك الأموال هو ترسيخ وجود أمريكا وحلفائها في تلك المناطق المحررة، حتى يُمنع الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون من المطالبة بتلك المناطق، أو أن يعود إليها تنظيم “داعش” الإرهابي، ومن المتوقع أن يتم وضع اللمسات النهائية للاتفاق، الذي ستدفع السعودية بموجبه 4 مليارات دولار، خلال زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلى واشنطن يوم الاثنين المقبل، وفقاً لتصريحات المسؤولين الأمريكيين.
لكن هذا الكلام لا يلقى ترحيباً كبيراً في أمريكا وخاصة في “البنتاغون”، حيث قال مسؤول رفيع المستوى مختص بمناقشة الأزمة السورية في وزارة الدفاع الأمريكية: “حجج مقنعة طرحتها أجنحة أخرى في البنتاغون، أبرزها أن الخروج الأمريكي المتعجل قد يخلق كيانات سيئة داخل سوريا، لا أعتقد أن هناك من لا يرغب في الوجود العسكري في سوريا، إلا ترامب نفسه”.
في مقابل ذلك قال أحد كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية لـ”واشنطن بوست” إن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، بات غير محبب، وطالب بضرورة أن تعقد قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من أمريكا، صفقة مع الحكومة السورية، خاصة وأن الرئيس بشار الأسد يحظى بمكاسب على الأرض كل يوم”.
هذا التخبط في الإدارة الأمريكية والذي برزت آخر نتائجه في إخراج وزير الخارجية تيلرسون من البيت الأبيض قبل عدة أيام، ينعكس على تصرف أمريكا وقراراتها بشأن المنطقة، وهذا قد يعكس نتائج سلبية جداً على الأزمة السورية التي كلما شارفت على النهاية تعود واشنطن لتحريكها وإشعالها من جديد وما تهديدها بضرب مواقع جديدة للحكومة السورية في الفترة المقبلة إلا خير دليل على ما ذكرنا وعلى ضعفها وعجز من تدعمهم عن التقدم ولو بخطوة واحدة نحو الأمام أو نحو الحدّ من توسع الجيش السوري في إعادة الأمن لأغلب أراضي بلاده.
المصدر / الوقت