اسباب تأجيل الانسحاب الاميركي من سوريا
وكالات – الرأي –
أميركتان، وليس أميركا واحدة في سوريا. الأولى عازمة على الانسحاب بوضوح، والثانية متمهلة قبل ساعات بلسان البيت الأبيض، لن تغادر وادي الفرات قبل الانتهاء “من استشارة الحلفاء” وإطلاق رصاصة الرحمة على من بقي من “داعش” الذي يطول احتضاره.
المفارقة في هذا الانفصام، أن اعتزام الانسحاب لم يكن لغواً من معهود الكلام الرئاسي في تغريدات تتحول إلى استراتيجيات، وليس لهواً في وقت سوري يضيع شرق الفرات. فما إن هُزمت “داعش”، دخلت الحملة الأميركية السورية زمن المراوحة خلف النهر، بل ودفعت أكلاف الأهداف التي لم يعد من الممكن تحقيقها بتأمل جريان النهر وحده وانتظار أن تحمل مياه الفرات جثثهم، خصوصاً أن الوقت انقلب ضد الأميركيين لمصلحة محور المقاومة.
يفترض الكلام الرئاسي الأميركي الأول عن الانسحاب القريب من سوريا أن حصيدة تدخّل “البنتاغون” المباشر منذ أيلول ٢٠١٤ لم يعد فيه ما يغري. ولا يغيّر البقاء بذريعة إطلاق رصاصة الرحمة على ما بقي من “جنود البغدادي” شيئاً في حقيقة أنّ التجاذب داخل الإدارة الأميركية حول الاستراتيجية التي ينبغي اتباعها في سوريا لا يزال مستعراً، وأن ورقة الانسحاب أو البقاء خاضعة للمقاولة بالمعنى الحرفي للكلمة.
ذلك أن الترامبية، بسبب أصول أصحابها، تقليد مركنتيلي تجاري قبل السياسي ينحو إلى إدارة سياسة الولايات المتحدة الخارجية والأطلسية، وفقاً لحسابات الربح والخسارة المالية وعلى المدى القصير. إذ لا يزال الأميركي في كل اجتماعات “الناتو” يطالب حلفاءه بثمن حراسة أمنهم في أوروبا، مشترطاً عليهم لذلك رفع ميزانيات دفاعهم إلى ٢ في المئة من ناتجهم القومي الخام، مع الاستمرار بالانفراد بالقرارات الاستراتيجية.
وعلى المنوال نفسه يبتز دونالد ترامب الشريك السعودي علناً: “العربية السعودية أمة ثرية جداً، ونأمل أن يعطوا الولايات المتحدة جزءً من ثرائهم هذا، عبر خلق وظائف وشراء أرقى المعدات العسكرية في العالم”.
فإما أن يموّل ولي العهد محمد بن سلمان الحملة الأميركية شرق الفرات التي تستعجل الحصول على أربعة مليارات دولار وتمويل خطة واسعة لتدريب جيش من المرتزقة المحليين، وإما أن يؤوب إلى الديار الألفا جندي أميركي، تاركين، كما قال ترامب، “للآخرين تدبر الأمر بأنفسهم في سوريا” ومن ضمنهم روسيا، وايران، وتركيا، وحزب الله… والسعودية.
يتصرف محمد بن سلمان على أساس أنه شريك في محور عسكري
ليس الابتزاز المالي وحده هو الخيار الذي طفا على سطح خطاب ترامب الانسحابي من سوريا. فتحت سطح الخطاب نفسه، لا تزال تتفاعل أصداء حملته الانتخابية ووعودها بمشاطرة الخليجيين أموالهم سداداً لحماية لن تكون مجانية من الآن فصاعداً. أما البعد الأخير فهو الذي يعكس نزوع الشخصية الرئاسية الدؤوبة إلى محاولة فرض سلطتها على الدولة العميقة. إن إعلان قرار الانسحاب، كان تمريناً “ترامبياً” على علو كعبه على أقطاب الدولة العميقة داخل الإدارة التي فرضت عليه التراجع تباعاً. ففي الملف الروسي أولاً، كان الرئيس ينوي التعاون مع روسيا بإيجابية في سوريا وفي ساحات اشتباك أخرى للتركيز على أولوية احتواء الصين. كما فرضت عليه التراجع في الملف السوري الذي تحول إلى ساحة مواجهة مع روسيا، لاستنزافها، وصار إسقاط النظام ممراً إجبارياً لاحتواء إيران، بعد أن كان شريكاً إجبارياً في المعركة ضد “داعش”.
أما الفرضية الأخرى، فتجعل من الانسحاب محطة إعداد وتمهيد لحرب أوسع وأشمل تحقق للولايات المتحدة و”إسرائيل” والسعودية، ما لم تستطع العمليات العسكرية الأميركية تحقيقه منذ أيلول ٢٠١٤، والضربات الجوية الإسرائيلية ضد حزب الله، ودخول الولايات المتحدة شريكاً مباشراً في الحرب السورية، وإنهاء الحرب بواسطة برامج “السي اي ايه”، والبنتاغون لتدريب المعارضات المختلفة وتسليحها.
إن الانتشار الأميركي في سوريا، سواء انحسر أو امتد في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، قد أدى غرضه ووظيفته القتالية، ولن يغيّر شيئاً في حقيقة أن محور المقاومة قد تطور ونما وتحول خلال الحرب إلى قوة هجومية ديناميكية قادرة على مواجهة “إسرائيل”. ولم يعد مجرد انتشار قوات أميركية شرق الفرات، مع الغطاء الجوي، والضربات الإسرائيلية، كافياً لحجب واقعة أن حزب الله أصبح قادراً على تصنيع صواريخ دقيقة وموجهة، تعتبرها “إسرائيل” كاسرة للتوازن. انكسرت قواعد اللعبة التي حاول الإسرائيلي فرضها، وهو ما حدا رئيس الأركان غادي أيزنكوت إلى التهديد بـ “شن حرب تدميرية كبرى، لا تبقي ولا تذر، ولا تستثني المدنيين”. إن أي حرب قادمة ستكون حرباً أميركية إسرائيلية مشتركة، وتل أبيب ستكون عاجزة عن الدفاع عن نفسها كما قال نائب رئيس الأركان السابق يائير غولان أمام “معهد واشنطن” في أيلول الماضي، وإنّ “شن أي حرب في المستقبل لن يكون ممكناً من دون الولايات المتحدة، وإن إسرائيل تعوّل عليها للانتصار على إيران”. وكان أيزنكوت قد توقع أن يقود “حرباً قبل نهاية هذا العام”. ويعزز المعادلة الجديدة للحرب الأميركية الإسرائيلية، التوسع الكبير في المناورات المشتركة بين الطرفين في “إسرائيل” في الأشهر الاخيرة، ونشر المزيد من شبكات “الباتريوت” والقبة الحديدية لسد الثُّغَر الكبيرة التي ظهرت فيها، سواء خلال المناورات أو الأداء السيئ لصواريخ “الباتريوت” التي ضلت طريقها في سماء الرياض قبل أسبوعين، والتي بيّنت هشاشة الادعاءات الحديدية للقبّة الأميركية الإسرائيلية.
طرح التجاذب الانسحابي الأميركي من سوريا وجهة أخرى تزعم أن الانسحاب لن يكون تراجعاً أمام محور المقاومة، لكنه قد يكون فرصة للحرب والانتصار فيها. فالشروط كلها تبدو مواتية لكي تشتعل نيرانها أكثر من أي وقت مضى. إذ تجد “إسرائيل” نفسها إلى جانب إدارة أميركية لا حدود لصقوريتها، بل تزايد عليها في قرع طبول الحرب. وهناك السعودية التي كانت متواطئة مع “إسرائيل” في حرب تموز ٢٠٠٦، وفي الحروب على غزة ٢٠٠٩ و٢٠١٢، وتحوّلت اليوم إلى المحرّض الأول عليها. يتصرف محمد بن سلمان على أساس أنه شريك في محور عسكري يضمه إلى “إسرائيل” والولايات المتحدة. وتقول مصادر مطلعة لـ “الأخبار” إنّه أبلغ البريطانيين خلال زيارته الاخيرة للندن، أن بلاده يمكن أن تشن الحرب على إيران، مراهناً على نصرة الغرب إياه تكراراً لسابقة عاصفة الصحراء وحرب الخليج (الفارسي)، التي هبّ الغرب خلالها لتدمير العراق بعد غزوه الكويت.
إن ما يمنع هذا السيناريو، الذي يشي به الكلام الانسحابي الأميركي، هو الأكلاف الباهظة التي لن تستطيع “إسرائيل” احتمالها إذا ما وقعت الحرب. تملك المقاومة القدرة على إلحاق خسائر فادحة بالمثلث الاستراتيجي في أكبر تجمع سكاني لـ “إسرائيل” في تل أبيب، حيفا، القدس الغربية. وهو مثلث تقطنه النخب اليهودية الغربية التي لم تدفع أثمان الحروب السابقة للكيان الصهيوني. وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، قد توقع أن تمتد الحرب إلى أكثر من ساحة، تتجاوز لبنان، وأن تشهد الجبهات تدفق الآلاف من المقاتلين من العراق وإيران وجبهات محور المقاومة، كذلك إن تلك الحرب مفتوحة على أزمان لن يكون بوسع “إسرائيل” التحكم بمجرياتها، ولا بخواتيمها، وهو الأشد قتلاً لها.انتهى
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق