أيقونة “أم المقاومة”…تاريخ حافل بالجهاد
تذكر الكتب المقدسة أن أمّاً ألقت ابنها في اليمّ موقنة بمصيره رغم أهوال الطريق مطمئنة لعودته إليها، عاد الفتى نبياً وقد أذاق فرعون وعصره طعم الهزيمة بإيمانه ومعجزاته.
وفي التاريخ الحديث تلك المرأة هي “آمنة سلامة” “أم عماد”، التي ألقت أولادها جميعاً في نار ودرب جنجلة مطمئنة لعودتهم إليها، وبالفعل عادوا جميعاً شهداء وقد أذاقوا فراعنة عصرهم طعم الهزيمة، عادوا وقد صنع الكبير فيهم ما كان ملايين الناس يرونه معجزات.
وحين تسأل عن صبرها على فقدها الولد تلو الولد، هي تردد دائماً “لا أحد يقبل موت أولاده من دون سبب”، وكم هو صعب على أم تقبّل سبب موت ابنها، حيث لا شيء أكبر من حزن الأمهات، لكن الحاجّة أم عماد مغنية تجاوزت حزناً يجعل يوم الأم عاماً من شدة المرارة، كل أولادها شهداء وكل الشهداء أولادها وهي بذلك استحقت ما لقّبت به في حياتها وبعد رحيلها “أم الشهداء”، وفي إحدى المقابلات التي أجرتها، تقول الحاجّة: “إن كل الشهداء يعنون لي، لأنهم جميعاً قد مرّوا بالذي مرّ به أولادي، وجميعهم بالنسبة لي كابني عماد”.
هي آمنة سلامة، تعرف بمربية جيل قادة المقاومين، معركتها مع الاحتلال الإسرائيلي كانت طويلة، وتعود إلى ما قبل اجتياح بيروت عام 1982، معركة قدّمت فيها الحاجة آمنة الغالي والنفيس بل كانت مستعدة لتقديم نفسها شهيدة على طريق فلسطين، وحتى يومنا هذا مرّت “أم عماد” في دروب طويلة كانت مليئة بالردهات الموحشة، لتمسي أيقونة لمقاومة ذخرتها من نفسها بأبنائها الثلاث عماد وفؤاد وجهاد.
تاريخ من الجهاد
لم تكن الحاجة أم عماد مغنية جديدة على العمل المقاوم، فلديها تاريخ حافل بالجهاد يعود إلى ما قبل عام 1982 حيث كانت في طليعة النسوة اللاتي شاركن في العمل الدعوي الإسلامي في لبنان، عبر نشر فكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر بين النساء، بالإضافة إلى مجهوداتها المشهودة بالقضية الفلسطينية ومحورتيها في الحالة الإسلامية الصاعدة مع انتصار الثورة في إيران، وكما تمكّنت الراحلة في فترات متلاحقة من رفد المقاومة بالمقاومين والشهداء من أبنائها، يروي مقرّبون من العائلة كيف كانت مواكبةً لكل مراحل عمل الشهيد القائد عماد مغنية ضمن المقاومة، حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وكيف أنها لم تتوانَ يوماً عن تأدية مهمات مختلفة ضمن العمل المقاوم، برحيل الحاجة أم عماد مغنية، تفتقد المقاومة في لبنان وفلسطين، وكل حركات المقاوِمة في منطقتنا والعالم، نموذجا حيّاً وحاضراً للمرأة التي تحجز لها حيّزاً واسعاً في حركات المقاومة والتحرّر، فتكون العاملة على نشر الفكر المقاوم وتعميمه، بالقول والفعل.
أم الشهداء
رحلة الجهاد المملوءة بالأشواك بدأت مع الراحلة عام 1984 حينما قدمت ابنها الأصغر، جهاد، شهيداً على طريق فلسطين، وبعدها بـ 10 سنوات لحق فؤاد بجهاد الذي استشهد بتفجير في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 1994، من بعد ذلك أصبح الموت في دار الحاجّة أم عماد طبيعياً، هذه المرة كان الناعي يحمل خبراً في طياته شهادة أحد صناع معادلات الصراع مع “إسرائيل”، عماد، الابن البكر، القائد العسكري لحزب الله، وقد قتل غيلة في دمشق عام 2008، حيث خلص تحقيق صحفي أجرته “واشنطن بوست” إلى أن اغتيال القائد في حزب الله عماد مغنية في 2008 بالعاصمة السورية دمشق، كان بعملية مشتركة نفذها الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات الأمريكية “CIA”.
قصة أم عماد مع الجهاد لم تنتهِ هنا، بل فتحت فصلاً جديداً من دروس النضال عام 2015، حينما انضمت صورة حفيدها، جهاد عماد مغنية، إلى صور أبنائها الشهداء الثلاثة التي زيّنت حائط غرفة الاستقبال في منزل الحاج أبو عماد، بعدما اغتالته الطائرات الإسرائيلية، مع مجموعة من المقاومين، في محافظة القنيطرة السورية، على الحدود مع الجولان المحتل.
زوجها وأنيسها في وجه صعوبات مراحل المقاومة وآلامها “أبو عماد” فايز مغنية لم يتحمّل فراق الأحبة، وكان قد سبقها إليهم العام الماضي، أثقلها الفقد هذه المرة، فأسرعت الرحيل، وبقيت بكلماتها التي سجلتها عدسات الكاميرا، بعد كل كلمة، تلطم كيد المحتل على وجهه، وتلهم جيلاً آخر من المقاومين.
كيف استقبل جمهور المقاومة الخبر
وبمزيد من الأسى ولوعة الفراق، استقبل جمهور المقاومة الخبر بحزن شديد، وعلى إثره اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر بخبر وفاة الحاجة، ليصبح وسم #أم_الشهداء_سلاماً الأكثر تداولاً في لبنان والمنطقة العربية، ومن بين التعليقات التي أتت مع الوسم:
قال الصحفي علي شعيب: في أمان الله يا أمنا.#أم_الشهداء_سلاماً وأرفق التغريدة بصورة لأم عماد وزوجها فايز مغنية.، وتغريدة أخرى قيل فيها: لم تقوَ على الفراق… فالتحقت#أم_الشهداء_سلاماً. وأخرى جاء فيها: تقرأ في خطوط وجهها تاريخ #الحالة_الإسلامية في لبنان، وعيناها تهدهدان جيل الحالة بل أجيالها بكل الحب برغم ثقل الزمن المرّ، وقيمتها -التي لا تكاد تفارق محياها رغم آلام الفراق -ترسم معنى التسليم لله قضاءه على مساحة الجهاد وقرابين الشهادة… رحمك الله #أم_عماد_مغنية.
ختاماً.. أسألوا أي شهيد عن أمه فسيقول إنها أعظم من شهادته، ثمانون عاماً رأت فيها أم الشهداء النكبة والنكسة، لكنها لم تكن من اليائسين بل من مؤسسي المقاومة على المستوى النسائي قولاً وفعلاً، أنجبت من يدوس رأس النكسة، فخرج الناس على يدي أولادها الشهداء في لبنان وفلسطين من زمن يقال فيه إن “إسرائيل” أسطورة إلى زمن يقال فيه إن تحرير فلسطين هدف قابل للتحقق برغم كل الصعاب على طريق القدس، كما أن فلسطين والحرية والمقاومة ستبقى حكايات للمستقبل، ذاكرة شفاهية وأخرى مخطوطة بالحبر والدم سترفدها بالحب والأمومة أم عماد مغنية التي يصفها البعض بشجرة الزيتون التي سترقد اليوم إلى جانب أبنائها الشهداء، زيتونة لا ينضب زيتها ولا يخبو نورها على طريق التحرير الطويلة.
المصدر / الوقت