الانهيار من الداخل..جذور العنصرية في المجتمع الأمريكي
كانت معاداة الهجرة واحدة من أهم العواقب المدمّرة لظهور العنصرية وانتشارها في المجتمعات الغربية، وتتوسّع هذه الموجة من الدعاية العنصرية ومحاربة الهجرة بسرعة من خلال تمكين الأحزاب والسياسيين اليمينيين المتطرفين، الذين يؤكدون على تعزيز القومية ومناهضة العولمة والدفاع عن الهوية المتكاملة وتعزيز الحدود في المجالين السياسي والاجتماعي، وقد أصبح ذلك أحد أهم القضايا المثيرة للجدل السياسي في هذه البلدان.
في هذا الصدد، فإن وقوع هجومين إرهابيين عنصريين وصادمين على الأقل على مجتمع المهاجرين والأقليات في أمريكا، والذي أدّی إلى وقوع خسائر كبيرة، أثار بشدة الجدل السياسي في المجتمع الأمريكي حول أسباب زيادة هذه الهجمات وكيفية منعها.
هذه القضية ليست جديدة بأي حال من الأحوال، وتثار بين فينة وأخرى على مسرح الحقائق السياسية والاجتماعية بعد وقوع مثل هذه الأحداث في المجتمع الأمريكي، ويتم إزالتها مرةً أخرى من الرأي العام بعد فترة من الوقت.
مع ذلك، فإن وجود شخصية معادية للهجرة في البيت الأبيض قد أعطى أهميةً مضاعفةً لجذور نمو النزعة اليمينية في المجتمع الأمريكي.
والسؤال الأساسي هو كيف يمكننا أن نستوعب حقيقة أنه يمكن أن يصل إلى السلطة ومن خلال العمليات الديمقراطية ومن داخل صناديق الاقتراع، شخص معارض للهجرة يحمل النزعات العنصرية الواضحة، وهي تجربة مشابهة لما دفع الألمان إلى اختيار هتلر، وهذا السؤال قد ساق علماء السياسة إلى مكونات مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى التداعيات الاجتماعية للنزعة اليمينية في أمريكا، سنناقشها فيما يلي.
جذور النزعة اليمينية في المجتمع الأمريكي
على عكس العديد من دول العالم، فإن أمريكا هي مجتمع وبلد مبني على الهجرة والتنوع البيولوجي التاريخي لمختلف الأجناس، وبالتالي فإن قضية الهجرة ومشكلة المهاجرين تعود إلی تاريخ قيام هذا البلد غير الطويل، بينما ليست قضية الهجرة متجذرةً إلی هذه الدرجة في العديد من المجتمعات المتقدمة الأخرى التي تواجه نمو القومية العنصرية ومعاداة الهجرة.
وهذه الحقيقة تجعل إيلاء الاهتمام بتاريخ العنصرية في أمريكا أمراً لا يمكن تجاهله.
إن بذور النازية – الحفاظ على العرق الأبيض النقي ومنع تلوثه بدم أجنبي – قد تم زرعها بنجاح في المجتمع الأمريكي قبل ألمانيا بكثير.
وما يقال اليوم عن خطر تنامي العنصرية كان ذات يوم الأيديولوجية المجمع عليها لكوادر النخب الأمريكية القوية والناس في أوائل القرن العشرين، الذين كانوا يضخمون خطر الهجرة من خلال عقيدة (الانتحار العرقي) الخاطئة، وكان هذا الجزء من المجتمع يتألف بشكل أساسي من النبلاء الأثرياء والمثقفين والمشرعين وحتى بعض رؤساء الجمهوريات، وربما يكون الأكثر أهميةً بينهم شخص يدعى “ماديسون غرانت”، الذي ألف في عام 1916 كتاباً بعنوان “العبور من العرق العظيم”، والذي نشر عقيدة نقاء العرق في جميع أنحاء العالم، وخاصةً أوروبا.
الحجة العلمية التي قدمها غرانت في هذا الكتاب، هي أن عرق “الشمال” المتميز الذي أسسته أمريكا إلى جانب كل إنجازات المجتمع الحديث، يتعرض للخطر الآن من خلال توسيع نطاق الهجرة.
وهي النظرة التي أدّت إلى تبنّي المشرعين الوطنيين في الكونغرس في أوائل عشرينات القرن الماضي سياسات تقييدية للهجرة، أكثر صرامةً وقسوةً مما يفرضه ترامب اليوم على المهاجرين، ويعتقد الكثيرون أن كتابه أصبح “الكتاب المقدس” لأدولف هتلر.
يستنسخ مذهب غرانت حتى يومنا هذا من قبل معجبي هذه النظرة العنصرية من خلال كتب مماثلة، وتعزز هذه الإيديولوجية الكراهية والعنف ضد المهاجرين على نطاق واسع تحت عنوان “الإبادة الجماعية البيضاء”.
حيث يحذّر الناشط القومي الأبيض “ريتشارد سبنسر”، في مقدمة طبعة 2013 من أعمال غرانت الأخرى، أنه من إحدى النتائج المحتملة للتغيير الديموغرافي الذي يحدث في أمريكا، هي إنشاء أمة مختلفة كلياً عن أمريكا البيضاء التي كانت من قبل.
ويمكن رؤية عودة عقيدة الانتحار العنصري بعنوان “الإبادة الجماعية البيضاء” في آراء ديفيد لين، وهو زعيم آخر لتيار البيض العنصريين، والذي ادّعى أن مصطلح “التكامل العنصري” هو مجرد تفسير جيد لإخفاء الإبادة الجماعية التي ترتكب ضد البيض.
وفي وثيقة “أربعة عشر كلمة” السيئة السمعة التي صدرت في التسعينات، يرى أنه: يجب أن نضمن وجود شعبنا ومستقبلنا لبقاء الأطفال البيض.
هذه الحركة، تماشياً مع دعاة النزعة اليمينية في أوروبا، تدعو إلى ضرورة “البديل الأسمى”، بمعنى أنه يجب قبول المهاجرين الأوروبيين بدلاً من مهاجري البلدان الإفريقية والآسيوية غير البيض.
يتضح تراث “غرانت” في أروقة السلطة الأمريكية بوضوح، وتصريحات ترامب، في الواقع، تتفق بشكل لافت مع هذه النظريات التي قدمها قادة النزعة اليمينية في أمريكا وأوروبا.
“ستيف بانون” كبير المستشارين السابق ومستشار حملة ترامب الانتخابية، وفي مقابلة مع “جيف سِسِس”، امتدح بحرارة قانون الهجرة عام 1924.
بانون الذي يعرف باسم المنظر الاستراتيجي للبيت الأبيض خلال رئاسة ترامب، يذكر في هذه المقابلة مراراً وتكراراً رواية “معسكر القديسين”، التي نُشرت في فرنسا عام 1973، والتي يُدمَّر فيها “العالم الأبيض” بسبب الهجرة الواسعة الانتشار.
كما تحدث “ستيفن ميلر” كبير مستشاري ترامب لسنوات عن قبول الهجرة من الدول الإسلامية، باعتباره تهديداً أكبر من قبول المهاجرين من الدول الأوروبية.
ومضمون تصريحات ترامب حول تفضيل المهاجرين الاسكندنافيين على المهاجرين من أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، والذي وصفهم بـ”بالوعات المجاري القذرة”، يعتبر في الغالب على أنه علامة على النزعة الغرانتية فيه.
كان يُنظر إلى العنصرية في المقام الأول على أنها مشكلة في الولايات الجنوبية، والتي أدْت إلى تاريخ دموي من حروب إلغاء العبودية بين الشمال والجنوب. مع ذلك، انتقلت العنصرية إلى الشمال خلال القرن العشرين أيضاً.
وبعد “الهجرة الكبرى”، أي انتقال ملايين الأمريكيين من أصل إفريقي من قرى الولايات الجنوبية إلى المراكز الصناعية الشمالية بين عامي 1910 و1970، وخاصةً في مدن مثل بوسطن وشيكاغو وديترويت ونيويورك ولوس أنجلوس وأوكلاند وسياتل وبورتلاند ودنفر، انتشرت الاتجاهات المناهضة للهجرة في هذه المناطق أيضاً.
وأدى التدفق السريع للسود إلى الشمال والغرب لتعطيل التوازن العنصري في المدن واشتداد العداوة بين السكان السود والبيض في المنطقتين، فعلى سبيل المثال، في شيكاغو، بين عامي 1910 و 1970، ارتفعت نسبة الأمريكيين الأفارقة من 2.0 في المئة إلى 32.7 في المئة.
حتى الصور النمطية ضد السود قد نمت في الدراسات الأنثروبولوجية سريعاً، بما في ذلك دراسة العلاقة بين توسع وجود السود الجنوبيين ونمو قضايا مثل الجريمة والمرض.
وقد أدّى ذلك بالأمريكيين الأفارقة في معظم مدن الشمال والغرب، إلى معايشة التمييز المنهجي في مجموعة متنوعة من جوانب الحياة.
وفيما يتصل بالعمالة، فقد انخفضت الفرص الاقتصادية للسود إلى أدنى مستوى لها، وفي سوق الإسكان، تم تطبيق تدابير تمييزية أقوى عليهم، ما يشير إلى ممارسة عنف متعمّد من أجل الحفاظ على الأغلبية العرقية للبيض.
في العقود الأخيرة، ظهر شكل آخر من أشكال العنصرية والهجرة، وهي العنصرية ضد الأمريكيين الناطقين بالعربية والمسلمين، ولا شك أن “إسلام فوبيا” شكل آخر من أشكال الفكر العنصري الذي نما إلى جانب حروب الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتماشياً مع صراع الحضارات.
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على أمريكا، ازداد التمييز والعنف العنصري ضد العرب الأمريكيين والمسلمين بشكل ملحوظ. ويجادل باحثون، بمن فيهم “سونينا مايرا” و”إيفلين السلطاني”، بأن عناصر العنصرية بعد 11 سبتمبر أصبحت مسألةً ثقافيةً وسياسيةً ودينيةً أكثر من كونها لوناً للبشرة.
ترامب والعنصرية وإعادة إنتاج العنف ضد المهاجرين والأقليات
يعتقد الكثيرون أن انتخاب دونالد ترامب كرئيس لأمريكا في عام 2016 كان بمثابة استجابة عنصرية لوجود باراك أوباما في رأس السلطة السياسية في هذا البلد، ما يدل على عمق الفجوة العرقية في المجتمع الأمريكي.
وهذا التحليل أكثر من أن يكون رد فعل هستيري من المعارضة (الأمر الذي يدحضه ترامب دائماً في رفض المزاعم العنصرية ضد نفسه ومؤيديه)، يأتي بسبب جود مؤشرات موضوعية للظروف والتطورات الاجتماعية بعد انتخاب ترامب.
في أغسطس 2017، تجمعت مجموعة من العنصريين في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، لتوحيد دعاة الأيديولوجية القومية، وخلال المظاهرة، اقتحم عنصري أبيض بسيارته صفوف مجموعة من المتظاهرين الذين احتشدوا أيضاً ضد ترامب، فقتل شخصاً وأصاب 19 آخرين.
كان رد فعل ترامب على هذه العملية الإرهابية، مجرد مطالبة الطرفين بضبط النفس، وهو الموقف الذي أثار غضب معارضي العنصرية، الذين وصفوه بأنه دعم الرئيس الضمني للعنصريين. وقد تكرر هذا بطريقة أخرى في قضية الهجوم الإرهابي للعنصري الأبيض “برينتون تارانت” ضد المصلين المسلمين في مسجدين في نيوزيلندا، ولكن مع فارق هذه المرة وهو أن القاتل قد أکد في تصريحاته أنه من مؤيدي دونالد ترامب باعتباره “رمزاً لاستعادة الهوية البيضاء”.
كما خلق الهجوم الإرهابي الأخير في مدينة إلباسو بولاية تكساس، موجةً من الرعب بين المجتمع الأمريكي، والذي استهدف المهاجرين من أصل مكسيكي، الذين قد انتقدهم ترامب مراراً ووجه إليهم تهماً مثل الاتجار بالمخدرات والجنوح والاستيلاء غير القانوني على فرص العمل وانتزاعها من العمال الأمريكيين وما إلى ذلك.
يعتبر المنتقدون أن إجراءات ترامب المعادية للهجرة، هي جزء من تكتيكه الانتخابي للفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والتي تهدف إلى إرضاء المؤيدين الذين صوتوا لمصلحته في عام 2016، ومعظمهم من البيض والأثرياء ومؤيدي حرية حمل السلاح.
وقد اتخذ مؤخراً موقفاً سلبياً تجاه أربع عضوات من أصول إفريقية ومسلمة في الكونغرس الأمريكي، وقد أثارت هذه الخطوة انتقادات واسعة النطاق بسبب استنساخ العنف العنصري ضد الأقليات وغير البيض.
ويرى هؤلاء المنتقدون أنه مع اقتراب موعد الانتخابات، ينبغي أن نتوقع زيادةً لهذا النوع من المواقف التي يطلقها ترامب.
وجود هذه الحقيقة بأن الفجوة تتسع في المجتمع الأمريكي يوماً بعد يوم، الأمر الذي تفاقمه بعض التطورات مثل الأزمات الاقتصادية الدورية في الرأسمالية وظهور أزمة المهاجرين نتيجةً لتوسع دائرة الحروب وانعدام الأمن والفقر في العالم، قد دفع بالعديد من المحللين إلى التحذير من خطر الانهيار الداخلي الأمريكي في المستقبل القريب.
المصدر/ الوقت