تداعيات مقتل البغدادي.. لماذا دمّرت أمريكا صندوقها الأسود؟
بالأمس، أكد ترامب خبر اغتيال أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم “داعش” الإرهابي الذي أعلن نفسه خليفةً.
يذكِّرنا هذا الاسم بخمس سنوات من الحرب والإرهاب والقتل الوحشي للأبرياء والهجرة القسرية والاغتصاب والاستعباد الجنسي. لكن السؤال الكبير الذي يبقى بلا إجابة هو، لماذا قُتل في هذا التوقيت بالذات حيث انسحبت أمريكا من سوريا وخفضت قواتها إلى أقل من 1000 جندي؟
أبو بكر البغدادي
“إبراهيم عواد إبراهيم البدري”، المعروف بأبي بكر البغدادي، 48 عاماً، من مواليد سامراء.
رغم أنه لم يكن من عائلة ثرية، إلا أنه تمكّن من دخول جامعة بغداد بدعم مالي من أسرته، وحصل على شهادة البكالوريوس في الدراسات الإسلامية من هذه الجامعة في عام 1996. وبعد ذلك، أكمل دراسته في جامعة صدام على مستوى الماجستير والدكتوراة في مجال الدراسات القرآنية، وفي عام 2004، قُبض عليه بتهمة إنشاء جماعة جيش الأمل.
بعد مقتل أبو عمر البغدادي في أبريل 2008، قام “المجلس المركزي للخلافة الإسلامية في العراق” بتعيين أبو بكر البغدادي خلفًا له.
اختلف البغدادي مع قائد جبهة النصرة “أبو محمد الجولاني”، الذي اعتزم الدخول في تحالف مع المتمردين السوريين السنة لمواجهة الحكومة السورية، وفي ربيع عام 2013، بعد الإعلان عن “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قام بدمج جبهة النصرة في “داعش” أيضاً، وهذا ما أدّى بـ “أيمن الظواهري” إلى أن يطرده هو وتنظيمه من القاعدة.
في يونيو 2014، استولى “داعش” على الموصل، وأعلن البغدادي نفسه خليفةً في مسجد المدينة، وسيطرت قواته في البداية على 100 ألف كيلومتر مربع من الأراضي العراقية والسورية.
تداعيات مقتل البغدادي
يبدو أن البغدادي كان يتدرّب لمهمة كبيرة تحت إشراف الإدارة الأمريكية السري منذ عام 2004. لأنه عندما كان محتجزاً في معسكر “بوكا”، وصل بسرعة إلى إمامة جماعة السجناء وخطيبهم لصلاة الجمعة.
وهنا بات على دراية جيدة بالقدرة على التعبئة وتنظيم القوى بالخطاب الديني، بحيث عندما انضم إلى “تنظيم الخلافة الإسلامية في العراق” بقيادة أبو أيوب المصري في السنوات التالية، وصل إلى الرتب العليا بسبب قدرته على تعبئة القوات.
من ناحية أخرى، هذا الشخص الذي قيل إنه قضى شبابه ومراهقته في تعلم الفقه والعلوم الإسلامية، وأعفي من الخدمة العسكرية بسبب ضعف البصر، عيَّنه أبو أيوب المصري فجأةً حلقة وصل بين الإسلاميين المتطرفين والعناصر المتبقية من حزب البعث.
ومثل هذه القدرات في بيئة العراق الأمنية المشددة، حيث كانت عناصر حزب البعث تخفي هويتها بالحيل العسكرية والاستخبارية، كانت مستحيلةً لولا التدريب العسكري للبغدادي.
وفقاً لما ذُكر أعلاه، كان أبو بكر البغدادي الصندوق الأسود لأمريكا، وإذا قُدِّر أن يقع في أسر القوات الروسية أو فصائل المقاومة في إدلب، لكان قد كشف عن معلومات تهدد الأمن القومي الأمريكي.
قال ترامب أثناء تأكيد مقتله: “كان اعتقال وقتل البغدادي أولويةً قصوى بالنسبة للأمن القومي لإدارتي”.
يتفق جميع الخبراء العسكريين والسياسيين أنه بقتل البغدادي لن يختفي خطر داعش، ومن ناحية أخرى إذا كان هناك خطر يهدد الأمن القومي الأمريكي والإقليمي، فهو سجناء داعش في شمال شرق سوريا، الذين يصل عددهم مع عائلاتهم إلى 12 ألف شخص، وقد هرب ما بين 800 إلى 850 منهم على مدار الأسبوعين الماضيين.
من جهة أخرى، بعد الاستيلاء على مدينة تدمر شمال سوريا في مايو 2015، بدأ داعش في تدمير المواقع الأثرية للمدينة بذريعة القضاء على المظاهر غير الإسلامية، لكن إجراء داعش هذا كان تناقضاً واضحاً، لأنه على الرغم من معارضته الأيديولوجية لهذه الآثار لكنه بدأ في بيعها.
ما هو مؤكد هو أن عمل داعش هذا كان يتماشى مع حلم “من النيل إلى الفرات” الإسرائيلي، لأنه بتدمير الآثار الهويائية للعراق وسوريا، تم تدمير الأدلة التاريخية للحكم الإسلامي وقبله الآشوري والسومري على هذه المنطقة أو تلاشت، وأزيلت العقبات التاريخية لحلم “من النيل إلى الفرات” واحدةً تلو الأخرى.
قام البغدادي، ومن خلال المبادرات التي كان قد تعلمها من أمريكا والكيان الإسرائيلي، بتهريب هذه القطع الأثرية وبيعها، ومن ناحية أخرى، انتشرت قواته بسرعة بالقرب من آبار النفط، وجعل هذين المصدرين للإيرادات حجم مبيعات داعش 3 مليارات دولار في السنة، وفقاً لمجلة “فوربس” الأمريكية.
مع مقتل البغدادي، اختفت المخاوف الإسرائيلية من تسريب المعلومات الحساسة، في حين أن وزارة الدفاع الروسية قد شككت في أن البغدادي قد قتل، وكان نتنياهو من بين الذين رحبوا بهذا الخبر.
هذا في حين أن داعش لم يقدم على أي هجوم أو حتى لم يظهر أي نية لمهاجمة الكيان الإسرائيلي، وكان هذا الكيان يقدّم الدعم اللوجستي للإرهابيين ويشفي جرحاهم خلال الحرب الأهلية السورية.
ومن الإنجازات الأخرى لخبر مقتل البغدادي، هي استخدام ترامب لهذا الخبر لتعزيز موقعه الانتخابي، ووضعه الضعيف عشية استجوابه.
بالنظر إلى الانتقادات التي وُجّهت لترمب بسبب مغادرته لسوريا، يسعى الآن إلى إظهار أن المهمة الأمريكية في الحرب ضد داعش قد انتهت بمقتل البغدادي، هذا في حين أن مسؤول العلاقات العامة في قوات سوريا الديمقراطية “ريدور خليل” قال إنهم كانوا على علم بمخبأ البغدادي منذ شهر، إلا أن وزير الدفاع الأمريكي سارع إلى نفي هذه المزاعم.
آثار مقتل البغدادي على مصير إدلب
تعتبر مدينة إدلب مفترق طرق استراتيجي يربط سوريا والأردن وتركيا، كما يوجد فيها معبر “باب الهاوي” الاستراتيجي الذي يتمتع بحجم كبير فيما يتصل برحلات الترانزيت.
إدلب هي القاعدة الأخيرة لتجمع الإرهابيين حالياً، حيث يتمركز فيها ما يقرب من 60 في المئة من الجماعات الإرهابية، بما في ذلك تحرير الشام، فيلق الشام، جيش النصر، جيش إدلب الحر، شهداء الإسلام، كتائب الحريّة وجيش الأحرار، مع ما يقرب من 70 ألف مسلح، وإذا عادت إدلب إلى أحضان الحكومة السورية، فستنتهي الحرب الأهلية السورية التي دامت ثماني سنوات إلى الأبد.
بالإضافة إلى ذلك، هنالك فوائد اقتصادية وسياسية أخرى لجبهة المقاومة، ولذلك، لا ترغب أمريكا وحلفاؤها في سيطرة سوريا على هذه المدينة، وبالتالي سعى ترامب إلى انتزاع الذريعة من سوريا للهجوم على إدلب من خلال قتل البغدادي، لأنه مع رحيل أمريكا من المحتمل جداً أن تعود إدلب إلى الحكومة المركزية السورية.
خلافة البغدادي
تشير بعض التقارير إلى أن أبا بكر البغدادي قد عيّن خليفته قبل شهرين من مقتله، وهو ضابط سابق في حزب البعث يدعى “عبد الله قارداش”.
لا يتمتع هذا الشخص بالمكانة الإيديولوجية والكاريزمية التي أوجدتها أمريكا للبغدادي على مدار أكثر من عشر سنوات، وهذا له نتيجتان على الأقل: الأولى أنه سيتم كسر هيبة وهيمنة داعش في سوريا إلى حدّ كبير، وفي المستقبل سيكون هذا التنظيم الإرهابي أقل قدرةً على التأكيد على العناصر السلفية والإيديولوجية لتجنيد القوات وتنظيم الأهداف، والثانية أن النتيجة الأكثر أهميةً هي التغيير في نهج وطبيعة عناصر داعش المتبقية.
يظهر مسار التطورات أن أمريكا تسعى إلى إعادة بناء حزب البعث في العراق، وحتى الآن قد فرَّ أكثر من مئة سجين من داعش إلى العراق، من ناحية أخرى، أعلن الخبير الأمني العراقي “مؤيد العلي” في يونيو، أن بعض عناصر حزب البعث تتجسس لمصلحة أمريكا من خلال التسلل إلى أجهزة الأمن العراقية.
لذلك، تسعى أمريكا إلى تنظيم منظّم لجزء من داعش في العراق بماهية جديدة للاستفادة السياسية من مصالح ذلك، ومع نهاية مهمة داعش، يبدو أن أمريكا تسعى إلى إعادة الفصل بين القسم الأفغاني والعراقي من هذا التنظيم الإرهابي.
المصدر / الوقت