إحتجاجات لبنان وسط صراع السياسات النقدية للحكومة والمصرف المركزي
بعد فترة شهدت تراجعاً في حدة الاحتجاجات في لبنان، بسبب الانتشار العالمي لفيروس کورونا، عادت الاحتجاجات إلى الساحة في بعض المدن اللبنانية الشمالية والجنوبية في الأيام الأخيرة، نتيجة استمرار الوضع الاقتصادي السيئ والتضخم.
سكان طرابلس خلال احتجاجات ليلة الاثنين، قطعوا بعض الطرق المؤدية إلى ساحة “النور” وأغلقوا طريق طرابلس – بيروت السريع، الأمر الذي منع إرسال الفرق الطبية من بيروت لإجراء اختبارات فيروس کورونا في جميع أنحاء البلاد. والجيش اللبناني من جانبه قال إنه سيحترم حق الشعب في الاحتجاج، طالما أن المحتجين يلتزمون بعدم إغلاق الطرق أو عدم الإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
أزمة البنوك وسبب تراجع قيمة العملة الوطنية
لقد شهد لبنان انخفاضاً حاداً في قيمة العملة الوطنية (الليرة) مقابل الدولار في الأشهر الأخيرة، وتوقع صندوق النقد الدولي نمواً سلبياً بنسبة 12 في المائة للبنان هذا العام. وقد أدى ذلك إلى خلافات خطيرة بين الحكومة الجديدة بقيادة “حسن دياب” والبنك المركزي، لتفادي تفاقم الوضع بشکل أکثر.
البنك المركزي اللبناني أعلن الثلاثاء الماضي أن جميع المودعين بالعملة الأجنبية في النظام المصرفي اللبناني، يمكنهم استعادة أموالهم بالليرة “بسعر الصرف في السوق” الذي حددته البنوك.
لبنان لديه عدد كبير من الشتات(أو المغتربين اللبنانيين)، الذين يرسلون العملات الأجنبية وخاصةً الدولار إلى لبنان، كما يودع العديد من اللبنانيين مدخراتهم بالعملة الأجنبية لدى البنوك. ويقال إن هناك ودائع بنحو 110 مليار دولار في بنوك الدولة اللبنانية.
علی الرغم من أن السياسة الجديدة للبنك المركزي الآن لجميع المودعين، هي طريقة لاستعادة ودائعهم بالعملات الأجنبية لدی البنوك بسعر يعكس بدقة القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية، ولکن مع ذلك يقول المحللون إن هذا الأمر قد أدی إلى موجة هائلة لاسترداد الودائع. الأمر الذي يمكن أن يكثف هجمات تجار السوق على الليرة اللبنانية ويؤدي إلی تضخم کبير عبر ارتفاع حاد في السيولة في الاقتصاد، وذلك سيجعل الاقتصاد اللبناني على حافة الانهيار.
حالياً يوجد ثلاثة أسعار لصرف العملة الصعبة في لبنان. هناك سعر رسمي لم يتغير منذ 23 عامًا وفيه يعادل الدولار 1500 ليرة، وهذا السعر متاح لمستوردي السلع الحيوية فحسب.
كما يوجد سعر في السوق السوداء تقدر قيمة الدولار فيه أغلى من الليرة بحوالي 4000. وأخيرًا، حدد البنك المركزي سعرًا موازيًا لسعر الحكومة، للمودعين الصغار الذين يرغبون في استرداد أموالهم من حسابات عملتهم الأجنبية بأقل من 3000 دولار، يساوي فيه كل دولار 3200 ليرة.
يواجه لبنان أسوأ أزماته المالية، المتجذرة في عقود من الفساد وسوء الإدارة والسياسات المعيبة. حيث ليس لدى البنوك احتياطيات الدولار اللازمة لسداد أكثر من 110 مليار دولار من الودائع، لأن المصرف المرکزي أقرض هذه الودائع مراراً وتكراراً للحكومات، وبطبيعة الحال أُعطي جزء منها للقطاع الخاص بطريقة مشبوهة.
إنسحاب سوريا من لبنان عام 2005 بعد مقتل الحريري، مع معدلات فائدة عالية للودائع(بعد انخفاض أسعار الفائدة في الخارج خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008)، أرسل مليارات الدولارات إلى المصارف اللبنانية.
لقد اعتقد صانعو السياسة أن الوضع يمكن السيطرة عليه طالما أن الاقتصاد ينمو بشكل أسرع من الدين العام. وفي مواجهة الاقتراض المفرط من البنوك المحلية والأجنبية، تعهدت مختلف الحكومات بخفض التكاليف وزيادة الإيرادات وخصخصة الشركات المملوكة للدولة وخفض الدين الوطني. وهي الخطوات التي لم تتحقق في أي من الحكومات السابقة. إلی أن بلغ ديون لبنان حالياً 92 مليار دولار، مما يصنفها بين الدول التي لديها أعلى نسبة دين في العالم بالقياس إلى الناتج المحلي الإجمالي.
خطة الإنقاذ الحكومية تقدر أن البنوك ستخسر 83 مليار دولار، ولذلك دعت إلى “قص شعر” أو تضرُّر كبار المودعين للمساعدة في سد هذه الفجوة.
رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب أكد الأسبوع الماضي أن 98 بالمائة من المودعين لن يتأثروا بالسياسة النقدية للحكومة، أي الذين لديهم ودائع بأقل من 500 ألف دولار. ومع ذلك، فإن بيان المصرف المركزي يتناقض بشكل صارخ مع خطط الحكومة، وقد أدى ذلك إلى انتقادات حادة لأداء “رياض سلامة” حاكم مصرف لبنان الذي يشغل هذا المنصب منذ فترة طويلة.
إتهم رئيس الوزراء اللبناني الجمعة الماضي رياض سلامة بالمسؤولية عن انخفاض قيمة العملة الوطنية. کما اتهم دياب سلامة بعدم التعاون، وقال إن خسائر البنوك قدرت بنحو 3 مليارات دولار الشهر الماضي وحده.
وبحسب دياب، فإن الأرقام تشير إلى أنه تم سحب 5.7 مليار دولار من ودائع البنوك بين يناير وفبراير، وأضيفت إلى السيولة، وهو ما وصفه بـ “الثقب الأسود”. وحذر دياب من أن السيولة في البنوك “بدأت تنفد”.
کما اتهم دياب عملياً البنك المركزي بعدم الأداء الشفاف، قائلا إن “هناك فجوات كبيرة في البنك المركزي: “فجوة في الأداء وفجوة في الإستراتيجيات وفجوة في الصراحة والوضوح وفجوة في السياسة النقدية وفجوة في الحسابات”.
يری منتقدو “الهندسة المالية” لرياض سلامة، أنه جعل البلاد تحت ديون لا يمكن التغلب عليها، وذلك من خلال احتکار الدولارات من البنوك المحلية مع أسعار فائدة عالية، للحفاظ على الأموال العامة.
وأضاف دياب بهذا الصدد: “ليخرج حاكم مصرف لبنان وليعلن للبنانيين الحقائق بصراحة، ولماذا يحصل ما يحصل، وما هو أفق المعالجة، وما هو سقف ارتفاع الدولار؟”
وفي تهديد ضمني، أعلن حسن دياب أنه بحسب التوافق مع رئيس الجمهورية، تقرَّر توظيف شركة تدقيق دولية مستقلة لمراجعة أداء البنك المركزي.
يُظهر هذا الإجراء وتصريحات رئيس الوزراء، التوسع المتزايد للخلافات مع صانع القرار الرئيسي في السياسة المصرفية للبلاد خلال العقود الثلاثة الماضية أي رياض سلامة، والذي بحسب الحصص العرقية لتوزيع الوظائف، يکون من حصة المسيحيين الموارنة.
معارضو دياب والسعي للاصطياد في مياه الاقتصاد العکرة
إن تهريب مليارات الدولارات من لبنان في الأشهر الأخيرة، وآثاره الثقيلة على اقتصاد البلاد، والتي كانت نتيجتها الأولى هي نقص الدولار ومضاعفة أسعاره، فضلاً عن عدم قدرة لبنان على سداد ديونه الخارجية الضخمة من ناحية، وتطبيق الحجر الصحي الاجتماعي للسيطرة على تفشي فيروس کورونا من ناحية أخرى، جعل حكومة دياب الحديثة النشأة التي وعدت بالحد من التضخم والمشكلات الاقتصادية بعيداً عن القضايا السياسية، تواجه إخفاقات واسعة النطاق، وتستخدم الجماعات السياسية المناهضة للحكومة ذلك كذريعة لتسوية الحسابات السياسية، وتصوير الحکومة بأنها غير فعالة.
كما ترى الحكومة في هذا الصدد أن البنك المركزي شريك مع المعارضة لخلق الأزمة. وقد بدأت الهجمات على حاکم المصرف المركزي في الخميس الماضي 23 أبريل بتهمتين: الأولی، أنه هو الوحيد الذي يتخذ القرارات المالية ولا يبلغ الحكومة بقراراته، وقد خفض عمداً من قيمة العملة الوطنية عن طريق سحب الدولار من السوق وتخزينه في البنك المركزي. والتهمة الأخری هي أنه يفعل ذلك لإضعاف الحكومة المدعومة من حزب الله وتحت الضغط الأمريكي.
وفي هذا السياق، شدد وزير المالية اللبناني “غازي وزني” على هامش اجتماع مجلس الوزراء، على أن ما حدث في سوق الدولار لعبة سياسية كاملة.
لكن بعد تصريحات دياب ضد حاکم المصرف المركزي، وإعلانه بعض الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالديون المصرفية علناً، اتخذ الحريري موقفاً بشأن هذه التصريحات، وزعم أن تصريحات دياب بعد اجتماع مجلس الوزراء في قصر بعبدا، تعني انقلابًا عسكريًا من قبل حكومته، وتظهر أنه يعتمد الأسلوب الانتقامي الذي كان سائداً في البلاد منذ أواخر التسعينات. وهو التصريح الذي يمكن اعتباره تهديداً غير مباشر حول إظهار رد الفعل القوي(مع تذکُّر سنوات الحرب الأهلية)، حيال خطط الإصلاح الحكومية لمكافحة الفساد.
العراقيل التي يضعها معارضو دياب من تيار 14 آذار وحزب المستقبل التابع لسعد الحريري في البرلمان، كانت واضحةً في السماح للحكومة بتطبيق سياسات مكافحة الفساد. حيث عقد مجلس النواب اللبناني جلسةً تشريعيةً يوم الأربعاء، صوّت فيها المشرعون على عدة قوانين مهمة.
أحد هذه القوانين هو رفع السرية المصرفية في لبنان، ووفقاً لذلك يجب إعداد قائمة بأسماء الوزراء والنواب اللبنانيين في السنوات الخمس الماضية، لدراسة الأداء المالي لهم ولأسرهم ومن حولهم، الذين كانوا نوعاً ما طرفاً في المعاملات والعقود العامة. وفي حال حدثت تجاوزات في هذا المجال، فيجب إن تعاد الأموال إلى خزينة الدولة. وقد صوت معظم النواب اللبنانيين لصالح القرار، لكن غادر الكثيرون قبل نهاية الجلسة.
يقول المسؤولون اللبنانيون إن أصحاب خمسة بنوك خاصة في البلاد، حولوا هذه الأموال إلى حسابات مصرفية سويسرية في غضون ثلاثة أشهر منذ بدء المظاهرات الشعبية في 17 أكتوبر إلی 25 يناير 2020.
کما قال بعض الخبراء الماليين والمصرفيين اللبنانيين، إنه بسبب الأزمة الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية والمصرفية، تم تحويل أصول بقيمة 6.5 مليار دولار من قبل شخصيات سياسية ومدراء عامين لبنانيين إلى الخارج، في أواخر ديسمبر/كانون الأول.
بطبيعة الحال، هذه الشخصيات السياسية والمدراء العامون مع السلطة الکبيرة واللوبيات الواسعة التي يتمتعون بها، ومعظمهم کانوا مشارکين وناشطين في الحكومات اللبنانية السابقة، سيستخدمون كل أدواتهم للإطاحة بحكومة “حسان دياب” وإفشال خطة الحكومة لمكافحة الفساد، وإحدى هذه الأدوات هي استغلال فرصة عدم الرضا الناجم عن تفاقم الركود الاقتصادي الناجم عن كورونا وإرسال المناصرين والمرتزقة إلى الشوارع، لخلق جو من الفوضى وانعدام الأمن وترديد شعارات ضد الحكومة.
المصدر/ الوقت