أسباب وتبعات انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة السماء المفتوحة
إن مواقف مسؤولو العديد من الدول، وخاصة مسؤولو الولايات المتحدة الأمريكية، تنذر ان واشنطن تستعد للانسحاب من معاهدة الأجواء المفتوحة في المستقبل القريب. وهذه ليست المرة الأولى التي تُطرح فيها هذه القضية، حيث سبق وان اُعلن عن مثل هكذا أنباء لأول مرة في أكتوبر 2019. وحذرت إدارة ترامب حلفاءها في الناتو في منتصف نوفمبر الماضي من أن الولايات المتحدة قد تنسحب من معاهدة السماء المفتوحة ما لم يتم التعامل مع المخاوف بشأن التزام روسيا بتعهداتها المنصوص عليها في المعاهدة.
لذلك، بالنظر إلى نهج ترامب السلبي تجاه المعاهدات الدولية والأنظمة القانونية وانسحاب البلاد من العديد من المعاهدات الدولية الهامة، مثل معاهدة نزع السلاح النووي والانسحاب ايضا من الاتفاق النووي مع إيران، يبدو أن الانسحاب من هذه المعاهدة يلوح في الأفق القريب.
ومن الضروري في الدرجة الأولى الإطلاع على تبريرات النُقاد والمؤيدين الأمريكيين للإنسحاب من هذه المعاهدة. فمن ناحية، أثار هؤلاء النقاد مخاوف بشأن عدم التزام روسيا بالمعاهدة، ولا سيما امتناع روسيا عن تسيير طائرات مراقبة على بعد 500 كيلومتر من كالينينغراد أو على ممر بطول 10 كيلومترات على طول الحدود الروسية مع الحدود الجنوبية لجورجيا مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
وتعتبر روسيا هذه المناطق دولًا مستقلة ولا يمكن السفر إلى الدول غير الأعضاء بموجب معاهدة الأجواء المفتوحة. وبطبيعة الحال، ان هذا الاستدلال، بعد ان قامت الولايات المتحدة في تقييد الرحلات الجوية فوق أسطول المحيط الهادئ في هاواي وقواعد الدفاع الصاروخي في فورت غارلي وألاسكا، فقد قدرة الإقناع.
ويؤكد النقاد أيضا أن روسيا تستخدم رحلات المراقبة لجمع المعلومات عن البنية التحتية العسكرية والمدنية الأمريكية الهامة. ونظرًا للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتقدمة في التجسس والاستطلاع، بالإضافة إلى وجود تكهنات حول فرض قيود على استخدام الطائرات لأجهزة المراقبة في معاهدة السماء المفتوحة، فإن هذه الحجة هي الأخرى غير قانعة تقريبًا.
ووفقًا للمعاهدة، يمكن لطائرات المراقبة حمل الكاميرات وأجهزة المسح بالأشعة تحت الحمراء والرادارات ذات القدرات الخاصة، كما يحق للدولة المضيفة فحص طائرة المراقبة للتأكد من أنها تحمل المعدات المصرح بها فقط.
ومن ناحية أخرى، يعتقد معارضو معاهدة السماء المفتوحة أن أقمار التجسس قامت بصنع ميزات مثل الكاميرات عالية الدقة على مدار الثلاثين عامًا الماضية، مما يجعل مهام طائرات المراقبة غير ضرورية. وعلى سبيل المثال، في نوفمبر 2018 صرح المسؤولون الأمريكيون علنًا بأن أساس تقييم مزاعم قيام روسيا باختبار صاروخ كروز المحظور في عام 2014 والذي يعد انتهاكًا لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية متوسطة المدى، كان عن طريق صور الأقمار الصناعية.
دخلت معاهدة السماء المفتوحة، التي اقترحها الرئيس أيزنهاور لأول مرة في عام 1955 ووُقعت في عام 1992 ، حيز التنفيذ في عام 2002 في عهد جورج دبليو بوش بمشاركة 34 دولة. وكان الاتفاق محاولة لضمان الشفافية في العمليات العسكرية في أوروبا وأمريكا الشمالية. ووفقا للمعاهدة، لدى الأطراف حصة طيران سنوية ويجب أن تُشارك هذه الاطراف، المعلومات المتاحة لديها، لجميع الأطراف الأخرى في المعاهدة.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما مدى تأثير الإنسحاب الأمريكي من معاهدة السماء المفتوحة، وهل سيكون بمقدور الدول الأعضاء الاستمرار في المعاهدة بعد انسحاب الولايات المتحدة؟
على الرغم من أن مشاركة الولايات المتحدة أمر مهم لاستمرار المعاهدة، فإن معاهدة السماء المفتوحة هي من الناحية الفنية معاهدة متعددة الأطراف يمكن الاستمرار في تنفيذها حتى من دون استمرار المشاركة الأمريكية. ووفقًا للاتفاقية، لدى أعضاء المعاهدة فرصة بين 30 الى 60 يومًا من تاريخ إعلان الولايات المتحدة نية الانسحاب، للتباحث بشأن عواقب انسحاب طرف واحد من المعاهدة وكيفية توزيع الحصص بينهم.
ممهدات وعقبات الانهيار
من المؤكد بعد انسحاب الولايات المتحدة، أن روسيا ستمتلك ذرائع قوية للانسحاب من المعاهدة على غرار الولايات المتحدة. وسيكون من المنطقي لموسكو أن تتشائم بشأن مشاركة معلوماتها المتعلقة بالطيران مع الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو والولايات المتحدة، في الوقت الذي لن تكون فيه روسيا قادرة على التحليق فوق سماء الولايات المتحدة. وترى موسكو أن الولايات المتحدة ستتمكن من الوصول الكامل إلى جميع البيانات التي يجمعها حلفاؤها حول روسيا.
هذا هو السبب وحده كافِ لإقناع الكرملين بالانسحاب من معاهدة السماء المفتوحة. ومن ناحية أخرى، نظرًا للتهديد الخطير الذي تشكله الولايات المتحدة على أوروبا نتيجة لإجراءات البيت الأبيض العدوانية التي اتخذها ترامب بشأن قضايا الأمن الأوروبية، فإن انسحاب روسيا من معاهدة السماء المفتوحة قد يزيد بطبيعة الحال من حدة الانقسام لدول عبر الأطلسي.
ومع ذلك، فإن من مصلحة موسكو البقاء في المعاهدة وعدم الإنسحاب منها لأن منافع البقاء في المعاهدة لموسكو تفوق الاضرار. أولاً، وفقًا لبحوثات، أجرت روسيا الكثير من رحلات المراقبة في جميع أنحاء أوروبا، لذا فإن الانسحاب الأمريكي، إجمالا لا يؤثر بشكل كبير على حجم البيانات التي جمعتها موسكو. وإن إعادة توزيع الحصص الأمريكية ستقلل فقط من الرحلات الجوية الهامشية والجانبية لروسيا وتزيد من عدد الرحلات الرئيسية، ونتيجة لذلك يمكنها جمع بيانات قيمة عن قوات وأنشطة الناتو في أوروبا.
ثانيًا، قد تطلب روسيا من دول الناتو اتخاذ خطوات لمعالجة مخاوف روسيا بشأن تنفيذ بند ابقاء المعلومات سرية داخل معاهدة السماء المفتوح. ومن الصعب تحديد نوع الضمانات التي تعتبرها موسكو صالحة بما فيه الكفاية، لكنها قد تطلب معلومات، أكثر من المعلومات التي ترغب دول الناتو الأوروبية بتقديمها. وبطبيعة الحال، لن يكون بقاء روسيا في المعاهدة دون شروط.
في أكتوبر 2019 ، قال سيرجي ريجكوف، رئيس لجنة تنفيذ المعاهدات في وزارة الدفاع الروسية، إن استمرار معاهدة السماء المفتوحة قد يتم “بشرط الإرادة السياسية الصحيحة” من قبل أعضاء آخرين. هذا الموقف هو مؤشر واضح على أن موسكو لديها شروط لمواصلة استمرارها في المعاهدة.
وهذا يعطي موسكو فرصة لتعزيز الفجوة في حلف شمال الأطلسي، حيث ستؤدي مطالب موسكو إلى الخلاف المحتوم بين التزامات الدول الأوروبية تجاه الناتو والتزامات عدم الكشف عن معلومات المعاهدة. وفي الواقع، السؤال هو ما إذا كان من الممكن تقييد تبادل المعلومات في الناتو بأي شكل من الأشكال.
وفي وقت سابق، أصدرت فرنسا وألمانيا وبريطانيا بيانا مشتركا يؤيد المعاهدة، وكتب وزير الدفاع السويدي بيتر هولويست رسالة إلى وزير الدفاع الأمريكي مارك سبير في 24 أكتوبر يعرب عن “قلقه العميق” بشأن تقارير حول انسحاب محتمل لحليف المعاهدة.
ثالثًا، لا ينبغي أن ننسى أن المعاهدة تم استخدامها كأداة لتعزيز تحالفات واشنطن مع الدول المحيطة بأمن موسكو، وخاصة أوكرانيا. وعندما اشتبكت القوات الانفصالية مع الجيش الأوكراني في منطقة دونباس في عام 2014 ، قامت الولايات المتحدة برحلات مراقبة، وكانت بعضها بالتعاون مع أوكرانيا، لجمع المعلومات، الأمر الذي يشير إلى الدعم السياسي الأمريكي لكييف.
رابعاً، ان الطائرات أكثر مرونة من السواتل والأقمار الصناعية (التي تطير في مدارات ثابتة)؛ بالإضافة إلى ذلك، يمكن للطائرات أن تحلق تحت الغيوم، في حين أن الظروف الجوية يمكن أن تؤثر على جودة التصوير الفضائي. كما ان بيانات طائرات المراقبة أكثر مصداقية من بيانات الأقمار الصناعية لإثبات خرق الاتفاقيات أو لإظهار وجود نشاط عسكري خطير.
لهذه الأسباب، في نوفمبر 2019، عندما ظهرت تقارير عن الانسحاب الأمريكي الوشيك من المعاهدة لأول مرة في وسائل الإعلام، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف إن روسيا لن تنسحب المعاهدة تلقائيًا إذا انسحبت الولايات المتحدة. وقال “لدينا خيارات عديدة للرد، ولكننا ببساطة لا نستطيع تجنب عدم الرد على إجراءات الولايات المتحدة”.
كما من المتوقع ان بقاء روسيا في المعاهدة سيتوقف قبل كل شيء على نتائج الإنتخابات الأمريكية. وإذا لم ينجح دونالد ترامب في تولي دورة ثانية لتولي منصب رئاسة الجمهورية في البلاد نوفمبر 2020، فمن المحتمل أن تنتظر موسكو لترى ما إذا كان الرئيس الأمريكي المقبل سيقرر العودة إلى معاهدة السماء المفتوحة او لا.
المصدر / الوقت