مكانة شرق المتوسط في استراتيجية السياسة الخارجية الروسية؛ الأهداف والمصالح
شهد شرق البحر الأبيض المتوسط، خلال السنوات الأخيرة، تطورات وتغييرات متسارعة، حيث وصلت الجهات الفاعلة في المنطقة، التي كانت حليفة في السابق، الى حدود الصدام العسكري في بعض الأحيان. فمن بين الجهات الفاعلة “خارج شرق المتوسط “ يتزايد ثقل روسيا، التي تعمل جاهدة على لعب دور محوري في شرق المتوسط وان تكون التي تحدد قواعد اللعبة في مستقبل هذه المنطقة.
البيئة الاستراتيجية في شرق المتوسط
في رؤية عامة ، أصبح البحر الأبيض المتوسط يحظى باهتمام خاص من قبل الدول المتشاطئة له وكذلك بعض البلدان البعيدة عن هذا البحر وذلك بسبب أهميته الجيوسياسية وكذلك موارده من النفط والغاز ، والبحر الأبيض المتوسط هو بحر شبه مغلق يحيط به 21 دولة. معظم الدول المطلة على المتوسط رسمت حدودها البحرية (باستثناء المنطقة الواقعة بين تركيا واليونان)، لكن الوضع القانوني للمناطق الاقتصادية ومناطق الصيد لا تزال غير واضحة بالكامل بعد.
النظام القانوني للبحر الأبيض المتوسط ، لأسباب مختلفة كـ استعمار بعض الدول الساحلية في الماضي ، ووجود العديد من الجزر ، والنزاعات الثنائية مثل النزاع اليوناني التركي في قبرص ، والنزاع بين المغرب وإسبانيا ، والنزاع حول مضيق جبل طارق بين إسبانيا وبريطانيا ، لا يجري الاتفاق عليه بشكل كامل بين جميع الدول.
لكن شرق البحر المتوسط كان ساحة للتنافس الجيوسياسي بين المعسكرين الشرقي والغربي منذ الحرب الباردة. و بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، تم تكثف الوجود الأمريكي في هذه المنطقة. لكن منذ عام 2012 حتى اليوم ومع بدء الولاية الثانية للرئيس باراك اوباما وتركيز امريكا على الشرق، تغيرت على الارض البيئة الاستراتيجية في شرق المتوسط كما هو الحال في الشرق الأوسط. وقامت روسيا بالاستفادة القصوى من فراغ أمريكا لتتابع تحقيق اهتماماتها الجيوسياسية القديمة.
قبل الغزو الأمريكي للعراق ، لم تبذل روسيا جهوداً مضاعفة لتوسيع قوتها خارج الحدود “القريبة من الحدود”. ولكن بعد الغزو الأمريكي غير المبرر للعراق ، يرى الكرملين قبول التأثير في الشرق الأوسط أو شرق البحر المتوسط بمثابة قبول بتوسيع حدود الناتو والغرب على حساب مصالحه الحيوية.
من ناحية أخرى، بينما يتضاءل الوجود المباشر للولايات المتحدة الأمريكية في شرق البحر الأبيض المتوسط، تسعى واشنطن إلى تعزيز محور قبرص ومصر والكيان الصهيوني في شرق البحر الأبيض المتوسط في مواجهة محور تركيا وروسيا. لذلك فإن البيئة الاستراتيجية في شرق المتوسط تتحول ببطء إلى استقطابات سياسية وعسكرية بمركزية روسيا وأمريكا. تبحث روسيا عن مصالحها الحيوية في هذه المنطقة ، في حين تسعى أمريكا، من خلال النظر إلى نفسها على أنها مهيمنة إلى الحفاظ على موطئ قدم في أوقات الأزمات ولاحتواء روسيا.
استراتيجية روسيا في شرق المتوسط
استراتيجية الكرملين في شرق المتوسط هي مزيج من المصالح السياسية والجيوسياسية والطاقة. إن اساس وجود روسيا في شرق البحر المتوسط هو لمنع الناتو والولايات المتحدة من توسيع حدودها والحفاظ على استراتيجية “القوة العظمى”. لذلك فإن موسكو تتطلع أولاً وقبل كل شيء إلى تعزيز تواجدها الجيوسياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الصدد ، أنشأت قاعدتين مهمتين ، في طرطوس واللاذقية في غرب سوريا من اجل الوجود الجيوسياسي في شرق المتوسط ، وتتطلع للتفاوض مع دول أخرى لمزيد من القواعد في شرق المتوسط.
الهدف الآخر الذي تسعى موسكو لتحقيقه في شرق المتوسط هو إحداث شرخ بين أعضاء الناتو. ففي الأزمة السورية ، تمكن بوتين بشكل جيد من خلق تقارب بين موسكو وأنقرة ، مما أضعف دور أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في سوريا. من جهة أخرى، تسعى الى تخفيض اعتماد تركيا العسكري على الناتو من خلال بيع S-400 كواحدة من أكثر صادرات الأسلحة الاستراتيجية الروسية إلى تركيا. اليونان كعضو في حلف شمال الأطلسي ودول شرق البحر الأبيض المتوسط ، تحظى بمكانة مهمة بالنسبة لروسيا وهي من بين الدول التي تحاول موسكو إضعاف علاقاتها مع الناتو.
في عام 2015 ، عندما فاز ” أليكسيس تسيبراس” من حزب سيريزا في الانتخابات الرئاسية ، ظهرت الآمال في تفكيك قواعد الناتو في اليونان التي وعد في تفكيكها حزب سيريزا خلال الشعارات الانتخابية التي اطلقها. لكن تحالف الحزب مع اليمين حال دون حدوث ذلك. ومع ذلك ، أظهر ” تسيبراس” أكبر تقارب مع روسيا. حيث سعت روسيا للتنافس مع حزم المساعدات الاقتصادية الأوروبية في مواجهة الأزمة المالية اليونانية. على الرغم من أن روسيا لم يكن لديها قدرة تقديممثل هذه المساعدة ، إلا أن موسكو تسعى للتقرب من اليونان من خلال استخدام خط أنابيب “التيار التركي”. وبحسب مجلة “شبيغيل” الأسبوعية، يمكن أن تتلقى اليونان ما بين 3 و 5 مليار يورو مقابل رسوم نقل الغاز الروسية. من جهة أخرى ، تمكنت روسيا من بيع أنظمة S-300 إلى اليونان ، مما أثرت هذه القضية على رغبة تركيا في شراء S-400 وتنافس هذين العضوين في الناتو لشراء المعدات الروسية.
يتبع الكرملين تجاه قبرص سياسة مشابهة لتلك التي تتبعها اليونان وتركيا. فمنذ الاتحاد السوفياتي، بدأت مبيعات الأسلحة إلى قبرص. وازداد الاستثمار الروسي في قبرص منذ الأزمة السورية ، حيث يعتبر ربع عدد السياح الأجانب في قبرص من الروس، وما بين ثلث ونصف المستثمرين الأجانب في قبرص هم من الروس. بحيث كانت قبرص ثاني أكبر متلق للاستثمار الروسي في 2011 وثالث أكبر بلد متلق للاستثمار الأجنبي لروسيا منذ عام 2005 إلى 2011.
كان لهذه الاستثمارات نتيجتان إيجابيتان على الأقل بالنسبة للكرملين ؛ 1. في الجانب السياسي والجيوسياسي حصلت روسيا، في ذروة الأزمة السورية، على اذن استخدام قاعدة “أندرياس باباندريو” الجوية بالقرب من مطار بافوس الدولي والتي تبعد 50 كيلومترا من القاعدة الجوية البريطانية. كانت هذه القاعدة مهمة لدعم القواعد الروسية على الشواطئ المطلة على البحر المتوسط. على الرغم من أن روسيا قد اعلنت في الظاهر أنه ليس لديها نية لإنشاء قاعدة في قبرص ، لكن هذا التعاون مستمر حتى يومنا هذا. اذ أفادت وسائل إعلام قبرصية وروسية منذ يومين بسماح قبرص لروسيا باستخدام قاعدة أندرياس باباندورا الجوية بشكل محدود. سمحت قبرص للطائرات العسكرية الروسية من أي نوع باستخدام هذه القاعدة في الحالات الضرورية لأغراض إنسانية. 2 – النتيجة الثانية لاستثمارات روسيا في قبرص ، وهو أمر مهم للغاية بالنسبة لأهداف روسيا في شرق البحر الأبيض المتوسط ، هي مشاركتها في مشاريع استخراج الطاقة والغاز في هذه المنطقة. حيث قالت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إن المنطقة البحرية الممتدة من لبنان إلى قبرص ومصر تحتوي على ما لا يقل عن 340 تريليون قدم مكعب من الغاز و 1.7 مليار برميل على الأقل من احتياطيات النفط. حيث ان الطاقة بالنسبة لروسيا للضغط على أوروبا لا تقتصر على المصالح الاقتصادية فحسب ، بل لها قيمة استراتيجية. روسيا لا ترغب في تنوع واردات أوروبا من الطاقة من الشرق الأوسط وشرق المتوسط، لأن انخفاض اعتماد طاقة أوروبا خاصة في مجال واردات الغاز سيخفض القدرة على احتواء ومناورة روسيا امام الاتحاد الاوروبي بوصفه احد الأقطاب المنافسة لروسيا المتنافسة.
لذلك ، ان روسيا ومثلما تحاول في ليبيا باعتبارها أقرب منطقة في البحر الأبيض المتوسط إلى شرق المتوسط ، تمنع تصدير الطاقة الى أوروبا من خلال خلق حالة من عدم الاستقرار ، و تتبع استراتيجية مشابهة مع نهج أكثر تعقيداً في شرق المتوسط.
يعتمد الاقتصاد الروسي على تجارة النفط والغاز إلى حد كبير. وكان توسيع تجارة الطاقة الروسية أحد أهم مكونات صعود بوتين إلى السلطة في الأيام الأولى. وبعد التقدم الكبير في استكشاف الغاز والنفط في شرق المتوسط ، وقع بنيامين نتنياهو مع رئيس قبرص نيكو أناستاسيا، ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، اتفاقية حدودية شرق المتوسط في أوائل عام 2020 في شرق البحر الأبيض المتوسط. تعد هذه الاتفاقية مكملة للاتفاقيات التي تم التوصل إليها بين الاطراف المذكورة بشأن استثمار الطاقة وتصديرها في المستقبل القريب.
يشكل تشكيل مثل هذه المعسكر لاستخراج الغاز والنفط وتصديره إلى أوروبا تهديدًا لمصالح روسيا في مجال الطاقة. ومع ذلك ، تمكنت روسيا من خلال سياسة بيع الأسلحة إلى بعض هذه البلدان والاستثمار الواسع في خطوط أنابيب “ترك ستريم” و “نورد ستريم 2 “، من ضمان بعض صادرات الغاز إلى أوروبا ، ومن جهة اخرى ان تحقق اقصى استفادة من الخلاف بين دول شرق البحر المتوسط مثل تركيا ومصر وقبرص والكيان الصهيوني. بحيث تحتاج هذه البلدان المذكورة إلى التعاون مع تركيا لنقل الغاز إلى أوروبا ، وتركيا لم تُظهر حتى الآن أي رغبة بهذه الاتفاقية.
استنتاج
دفعت الاستثمارات الروسية السياسية والجيوسياسية طويلة الأمد في شرق البحر الأبيض المتوسط، موسكو إلى تمهيد الطريق لإظهار القوة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
خلال هذه الاعوام ، كثفت روسيا حربها الإلكترونية في شرق البحر الأبيض المتوسط ، حيث حذر المسؤولون العسكريون الأمريكيون مرارا وتكرارا من هذه القضية. وقال الجيش الأمريكي إن روسيا في الحرب الإلكترونية في شرق المتوسط قطعت أو قامت بتشويش اتصالات الطائرات الأمريكية EC-130.
لا تستطيع الغواصات الروسية في البحر المتوسط إطلاق صواريخ كروز نحو اهداف أرضية فحسب ، بل يمكنها تهديد البنية التحتية تحت الأرض. حيث قامت روسيا بنشر سفينة “يانتار” لدراسة المحيطات في شرق البحر الأبيض المتوسط ، والتي ، وفقا لبيان صادر عن البرلمان الروسي ، تم تجهيزها لمراقبة أعماق البحار و “الاتصال بكابلات الاتصالات السرية”. كما أعربت وزارة الدفاع البريطانية مؤخراً عن قلقها بشأن قدرة روسيا على تدمير أو قطع الكابلات البحرية في شرق المتوسط.
تحاول روسيا الاستفادة إلى أقصى حد من قدرتها على المناورة في شرق المتوسط. فبعد تصاعد التوترات في سوريا في أوائل عام 2020 ، أرسلت روسيا سفينة “مارشال أوستينوف” الحربية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت نفسه ، تحاول روسيا الحد من قدرة الولايات المتحدة على المناورة والنفوذ في شرق البحر المتوسط. حيث قامت مقاتلات سوخو 35 الروسية في المتوسط من تقييد قدرة عمليات الاستطلاع للطائرات P-8A الأمريكية، حيث تمت منذ يومين آخر عملية لها لمضايقة الطائرات الأمريكية. وعلى الرغم من أن نفوذ الولايات المتحدة في البحر المتوسط قد تضاءل ، فإنها تحاول الحد من قدرة روسيا على المناورة من خلال رصد مصالح روسيا الجيوسياسية وحظر خطوط نقل الغاز الروسي الى اوروبا.
المصدر / الوقت