التحديث الاخير بتاريخ|الأحد, نوفمبر 24, 2024

محاولات الصهاينة الحثيثة للاستيلاء على مياه النيل 

في عام 2011، قرّرت الحكومة الإثيوبية، وهي واحدة من أقدم الدول المستقلة في القرن الإفريقي، بناء سد على نهر النيل بالقرب من حدود البلاد مع السودان، يعرف باسم “النهضة”؛ ومنذ البداية أصبحت هذه القضية موضوع نزاع بين هذا البلد ومصر.

المفاوضات بين الجانبين لم تسفرعن نتائج تذكر منذ ذلك الحين، وأصرّت إثيوبيا على أن تبدأ عملية ملء السدّ في يوليو المقبل دون موافقة مصر، ما دفع القاهرة إلى إحالة الأمر إلى مجلس الأمن، والسبب الرئيس لمعارضة مصر لبناء السد، هو أن نهر النيل هو أهم مصدر للمياه في مصر، وتعتقد القاهرة أنّ السد سيقلّل من إمدادات مياه النيل.

على أيّ حال، استمر الخلاف بين الجانبين وقد يؤدي إلى صراع عسكري، لکن النقطة المهمة في هذا الصدد هي آثار أقدام الکيان الصهيوني في ملف سد النهضة.

تاريخ الأطماع الصهيونية في مياه النيل

يعود جشع الصهاينة في مياه النيل إلى ما قبل قيام کيانهم المزيف، وخاصةً في عام 1903، عندما اقترح “ثيودور هرتزل” مؤسس الحركة الصهيونية بناء مستوطنة في شبه جزيرة سيناء، بهدف ضمها لاحقًاً للمستوطنات الصهيونية في فلسطين المحتلة.

وفي هذا الصدد ولمعالجة مشكلة نقص المياه في هذه المنطقة، اقترح هرتزل لوزير الخارجية البريطاني آنذاك “لانسدون” أن يطلق خط أنابيب في عمق قناة السويس لضخ المياه من النيل إلى شبه جزيرة سيناء، لكن بريطانيا رفضت هذه الخطوة بسبب تأثيرها السلبي على القطاع الزراعي في مصر، وخاصةً القطن الذي كان حيوياً للصناعة البريطانية.

لقد كرر الکيان الإسرائيلي هذا المطلب في الستينيات والسبعينيات، مستشهداً بالمقالات والدراسات التي کانت تتحدث عن نقل مياه النيل إلى المستوطنات الصهيونية، وقدم الخبراء الصهاينة آليات لذلك أيضاً.

لكن مشاريع نقل مياه النيل إلى المستوطنات الصهيونية في فلسطين المحتلة لم تقتصر على المهندسين والخبراء الإسرائيليين، بل أطلق الرئيس المصري آنذاك “أنور السادات”، الذي فتح لأول مرة في العالم العربي باب السلام وتطبيع العلاقات مع الکيان الصهيوني، خلال زيارة إلى القدس المحتلة عام 1977، أطلق مشروع “قناة السلام” لنقل المياه من النيل إلى القدس المحتلة.

دور الأمن المائي والبعد الجيوسياسي في دخول الکيان الإسرائيلي إلى ملف سد النهضة

فيما يتعلق بمسألة الأمن المائي، فإن قضية إمدادات المياه للمستوطنات الصهيونية هي ضرورة أساسية للکيان الإسرائيلي. وقد أظهرت دراسات مختلفة في الآونة الأخيرة أن “إسرائيل” في أزمة يرى الخبراء الصهاينة أنها تشكل تهديدًا خطيرًا لثروتهم المائية، والتي تهدد اقتصاد الکيان الصهيوني بشکل غير مسبوق.

وسائل الإعلام الإسرائيلية أفادت في السنوات الأخيرة أن العديد من البحيرات والأنهار والمياه الجوفية في فلسطين المحتلة، وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ 20 عامًا، لأن بحيرة “طبريا” وصلت إلى “الخط الأسود” بشكل خطير؛ وهو السطح الذي يقع تحت أنابيب مدخل المضخات التي ترسل مياه هذه البحيرة إلى المدن المجاورة.

ووفقًا للدراسات الإسرائيلية، فإن تحسين مستويات المعيشة وإنشاء مستوطنات جديدة للصهاينة، يتطلب زيادةً في المياه تبلغ 600 مليون متر مكعب سنويًا، الأمر الذي سيؤدي، إذا لم يتحقق ذلك، فسيتحوّل الأمر إلى أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة للصهاينة.

مجموع هذه العوامل أدّی بالمسؤولين الصهاينة إلى الدخول في قضية سد النهضة مباشرةً، لفرض وجودهم السياسي والأمني ​​على مياه النيل. وسيدفع ذلك الصهاينة إلى إحياء مشاريعهم في مراحل لاحقة، والتي تهدف إلى نقل مياه النيل إلى المستوطنات الصهيونية في فلسطين المحتلة، وخاصةً في ظروف انعدام الأمن المائي التي يعيشونها.

كان نقل مياه النيل إلى فلسطين المحتلة أحد أهم المشاريع الصهيونية المقترحة في المحادثات المتعددة الأطراف عام 1992 في فيينا، حيث ركّز فريق المفاوضين الإسرائيليين على قضية نقل المياه إلى المستوطنات الصهيونية، بذريعة أن “إسرائيل” ليس لديها مياه. وکان “دان سالازفسكي” عضو الفريق الصهيوني المفاوض قد قال إنه إذا كان أحد يبحث عن السلام، فلا يجب أن يجادل حول نقل المياه إلى المستوطنات الإسرائيلية.

لكن البعد الجيوسياسي للکيان الصهيوني في قضية سد النهضة يعود إلى الستينيات، حيث كان بناء السد نتيجة دراسة أجرتها الإدارة الأمريكية آنذاك لصالح حليفها، أي الکيان الإسرائيلي.

وخلال تلك الفترة، أجرى مكتب إصلاح الأراضي في أمريكا عدّة دراسات من عام 1956 إلى عام 1946 لبناء سد في إثيوبيا، كان أهمها “كارادوبي” و”مابيل” و”مانديا” و”سد النهضة”.

في الواقع، يحاول الکيان الإسرائيلي وضع إثيوبيا كنقطة عبور له في أفريقيا، وكذلك طريق نفوذ لفتح القنوات السياسية والأمنية والعسكرية في القرن الإفريقي، حتى يتمكن بالتعاون مع إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي من دعم الصراعات الإقليمية، وإذکاء التوترات في البحر الأحمر، وخاصةً في اليمن.

الکيان الإسرائيلي في قلب سد النهضة

قال رئيس وزراء الکيان الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في يوليو 2016 خلال زيارة إلى أديس أبابا (عاصمة إثيوبيا)، في کلمة له في البرلمان الإثيوبي: “نحن ندعم التكنولوجيا الإثيوبية لنستفيد من مواردها المائية”.

تصريح نتنياهو هذا يعبِّر عن دعمه الصريح لأديس أبابا بشأن نزاعها مع القاهرة بشأن سد النهضة، خاصةً أن هذه الزيارة قد تزامنت مع افتتاح المرحلة الأولى من بناء السد على نهر النيل.

طبعاً، تصريحات الصهاينة الداعمة لاثيوبيا حول هذا السد مستمرة، حيث في كانون الأول/ديسمبر 2019، تحدثت “آينات شيلين” نائبة المدير العام للشؤون الأفريقية في وزارة خارجية الکيان الإسرائيلي، عن استعداد تل أبيب لتبادل خبرتها في إدارة المياه مع إثيوبيا.

وبالإضافة إلى الدعم السياسي، كشف الموقع الصهيوني “دبكا” في يوليو 2019 أن “إسرائيل” أكملت نشر نظام صواريخها حول سد النهضة.

وعلى الرغم من نفي المسؤولين الصهاينة، أعلن السفير الإثيوبي السابق في الأراضي المحتلة “هيلاوي يوسف” أن شركةً إسرائيليةً وقعت عقودًا مع أديس أبابا لإدارة محطات الطاقة الإثيوبية، بما في ذلك سد النهضة.

وشدد يوسف أيضاً على أن الکيان الإسرائيلي لديه 240 مستثمراً في مجال الري والكهرباء والمياه، بالإضافة إلى تنفيذ مشاريع الري الضخمة في المياه الإثيوبية بعد بناء السد، وکذلك 200 مليون دولار لتطوير نظام الري الإثيوبي. كما استخدمت إثيوبيا خبراء ومهندسين إسرائيليين في المرحلة الثانية من بناء السد.

الجهود المضنية للصهاينة للسيطرة على مياه النيل

على مدى العقود الماضية، فشل الکيان الصهيوني في فرض مشاريعه لاستخدام مياه النيل، وواجه مقاومةً متكررةً من مصر، كما قوبلت تصريحات أنور السادات بشأن نقل المياه من النيل إلى الأراضي المحتلة، بإدانة قوية من الأحزاب الوطنية والسياسية في مصر، ما دفع الرؤساء القادمين في هذا البلد أيّ “حسني مبارك” و”محمد مرسي” و”عبد الفتاح السيسي” إلی الامتناع عن قبولها.

ولذلك، كان بناء سد النهضة فرصةً جيدةً للصهاينة لإحياء مشاريع نقل مياه النيل إلى الأراضي المحتلة.

في الواقع، تحاول تل أبيب ترسيخ نفسها من البوابة الإثيوبية كدولة رسمية معترف بها في الشرق الأوسط وأحد الأطراف ذات الصلة بمياه النيل في المقام الأول، ثم تنهب مياه هذا النهر.

وتعتقد بعض الدوائر الصهيونية أن سد النهضة يمنع مياه النيل من دخول الأراضي المحتلة عبر مصر، لكن إذا ضغطوا على القاهرة، فإن وجود الصهاينة في هذا المشروع ودعمهم لإثيوبيا سيغير كل شيء.

کذلك، بما أن تل أبيب تسيطر الآن أيضاً على نسبة كبيرة من مشاريع المياه والكهرباء في إثيوبيا، فإنها يمكن أن تتحكم لاحقًا في دخول مياه النيل من المصدر إلى المدخل، مع ضمان وصول مصر إلى نسبة من مياة النيل. وبعبارة أخرى، فإن الکيان الإسرائيلي سيجعل دخول مياه النيل إلى مصر مشروطًا بنقل جزء منها إلى الأراضي المحتلة، وكل ذلك ممكن من خلال البوابة الإثيوبية.

وما يعزز الشكوك في هذا الصدد، وفقًا لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، هو أنه تم في عام 2016 بناء 6 أنفاق كبيرة في شبه جزيرة سيناء دون إعلان رسمي، بهدف نقل مياه النيل إلى الأراضي المحتلة.

ولعل أوضح ما يمكن قوله عن دراسة أسس الأزمة التي خلقها سد النهضة لمصر الآن، هو العودة إلى دور مصر في إفريقيا بعد الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” وزعيم الحركة التحررية في هذا البلد منذ أوائل السبعينيات. بحيث بعد جمال عبد الناصر، تحولت السياسات المصرية في هذه الفترة إلى مصالح الکيان الصهيوني، وتمكن هذا الکيان من إيجاد عدة طرق للتسلل إلى القارة الإفريقية عبر مصر.

والحقيقة هي أن قضية سد النهضة لا تتعلق فقط بالمحادثات بين مصر وإثيوبيا والسودان، بل تتعلق أكثر برغبات وأطماع الکيان الإسرائيلي في استخدام موارد الطاقة في النيل من جهة، ووجوده الأوسع والأكثر فعاليةً في القارة الإفريقية من جهة أخرى.

وبالتالي، فإن الکيان الصهيوني هو الفاعل الأبرز حاليًا في قضية سد النهضة، والذي لن يوافق أبدًا على أيّ حلّ يقلل من وجوده في سواحل النيل والبحر الأحمر، ولهذا السبب من المحتمل جداً أن تسوق تل أبيب الدول المشاركة في هذه القضية إلی التقسيم، لتحقيق جشعها في هذا المجال.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق