الطرق الصوفية في تركيا وخطر الجماعات المسلحة السرية
على ما يبدو، أن قصة الجماعات والطرائق الصوفية والجمعيات الدينية، التي تسمى “الجماعة” في الأدبيات السياسية التركية، لا تنتهي، وأكبر جماعة دينية في تركيا والتي تدعى “خدمت” بقيادة فتح الله غولن، دفعت تركيا إلى حافة الهاوية في انقلاب عام 2016 الفاشل.
ولكن يبدو أنه حتى هذه القضية الأمنية الحساسة والأساسية لم تغلق الطريق أمام نشاط الجماعات الدينية الأخرى، ويظهر أن القدرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للطرائق والجماعات ليس فقط لا تُحذف، بل حتی لا يمكن السيطرة عليها.
ومؤخراً أعلنت إحدى أشهر الشخصيات في الطرق الصوفية التركية، أن 2000 جمعية وجماعة سلفية في البلاد باتت مسلحةً، وقد تسبِّب اضطرابات وتوترات في كل مكان في أوقات الأزمات.
الصراع بين المتديِّنين والعلمانيين
قبل أيام قليلة فقط، جذبت أنباء اعتقال وسجن زعيم بارز في الطريقة العشاقية بتهمة الاعتداء الجنسي على طفل يبلغ من العمر 12 عامًا، انتباه وسائل الإعلام والرأي العام التركي کقنبلة إخبارية.
تسبَّب اعتقال هذا الشخص، المعروف باسم “فاتح نور الله” شيخ الطريقة العشاقية، في طيفين سياسيين واجتماعيين كبيرين، يسعى كل منهما بطريقة ما إلى الاستخدام السياسي.
الكماليون والعلمانيون قد انتهزوا الفرصة مرةً أخرى ليهاجموا جميع المتدينين والمحافظين، ويشککوا بالإضافة إلى الطرق الصوفية، في المجتمع الإسلامي والمتدين في تركيا بأكمله ويتحدَّون معتقداته.
في المقابل، جادل المحافظون مرةً أخرى بأن الكماليين لا يهتمون بالدفاع عن حقوق الطفل المضطهد، وأنهم يسعون إلى تدمير سمعة المجتمع الديني بأكمله.
وذكرت بعض الشخصيات الأكاديمية التين أجرت بحوثاً ميدانيةً مكثفةً في هذا المجال، أن مليون طفل تركي موجودون عمليًا في المدارس والدوائر والجمعيات والمدارس والمهاجع التي ترتبط بالجماعات والطرائق، ويتعلمون مواضيع مختلفة، والمسألة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه.
الشبكة المالية الضخمة، مفتاح التأثير
“إسماعيل سايماز” الصحفي التركي المعروف الذي انضم مؤخرًا إلى مكتب تحرير صحيفة سوزجو”، أجری تقريراً ميدانياً حول العديد من ممتلكات الشيخ وأمواله وعقاراته، وأعلن أن لدى الشيخ فاتح نور الله عشاقي أكثر من 16 فيلا كبيرة وشقة ومبانٍ ضخمة في اسطنبول وأنقرة ويالوفا وساکاريا، وفي الطريقة الصوفية التي يقودها هناك العديد من شركات النشر والسياحة والبناء ومختلف الشركات التي تتلقى مبالغ كبيرة من الزكاة والفطرة من المسلمين، ليس فقط في تركيا ولكن أيضًا في فرنسا وألمانيا وعدة دول أخرى، وبهذه الطريقة حقَّق دخلاً هائلاً.
ومن خلال نشر صورة لكل عقار، أوضح سايماز أن الوصول إلى المعلومات المالية لزعماء الطرق والجماعات الدينية الغنية والقوية، ليس مهمةً صعبةً.
إن تحليل هيكل وآلية نشاط هذه الطرق الصوفية ليس مهمةً صعبةً، ويتم عبر العملية التالية: بعد بضع سنوات من الوعظ، يجمع الشيخ أو المراد مريدين، ثم يسافر إلى المدن والقرى لتوسيع حلقاته، وبينما يجتذب أصدقاء وعائلات جديدة، يجمع الموارد المالية والزكاة والتبرعات أيضاً.
ثم يقيم علاقات مع الطبقة الثرية والمؤثرة والسلطات الإدارية والسياسية، ويكتسب مكانةً أعلى من خلال استخدام أدوات أخرى مثل الإعلام والهيكل الاستخباري والقضائي وسلسلة الشركات والمناقصات والمزايدات، وبهذه الطريقة يؤسس “شبكته”.
تحاول هذه الشبكة، بالتفاعل مع الحكومة والأحزاب، ضخ أدواتها في جسم الإدارات والمؤسسات، ثم في مجال ما وراء الحدود، تبذل جهودًا أوسع لتقديم نفسها للجميع كشبكة قوية ومؤثرة.
من المال إلى السلاح
في السنوات الأخيرة، وبالإضافة إلى الطرائق الصوفية التي غالبًا ما تنشط في مجالات التعليم والدعاية الدينية والأخلاقية، ولا تدخل بشكل موضوعي في صراعات سياسية، تم تشكيل مئات الجمعيات السلفية في تركيا أيضاً، والتي تختلف عن الطرائق الصوفية في آلية العمل والأهداف والتطلعات.
وغالبًا ما يكون لدى هذه الجماعات السلفية بعض الميول لإعادة تأسيس الخلافة، وبالإضافة إلى تركيا، فهي تهتم أيضًا بقضايا سياسية وأمنية أخرى في المنطقة، وهي أكثر نشاطًا من الطرائق الصوفية وأکبر انخراطاً في السياسة.
يُعدّ “أحمد محمود أونلو”، المعروف باسم “جُبه لي هوجا”(خاجة جُبه دار)، من أشهر الشخصيات الإعلامية للطرائق الصوفية في تركيا. ويعتبر من قيادات طريقة “إسماعيل أقايي”(إحدى الطرائق الصوفية المؤيدة للحزب الحاكم)، ويشتغل في الشؤون السياسية بين الحين والآخر.
أعلن أحمد محمود أونلو مؤخراً في مقابلة تلفزيونية على الهواء مباشرةً: “في جميع أنحاء بلدنا، قامت حوالي 2000 جمعية داعمة للسلفية بتسليح نفسها. لديّ عناوين وأسماء 150 جمعية، وفي حوزتي معلومات واضحة عن تفاصيل أسلحتهم. وإذا دعاني المدعي العام، فأنا على استعداد لتزويده بمعلوماتي حتى يتمّ اتخاذ الإجراءات اللازمة. هذه الجمعيات السلفية هي البنية التحتية الأساسية لداعش، وقد أنشأت الآن مؤسسات اجتماعية وجماعات مسلحة في محافظات مثل قونية وباتمان وأديامان. لقد قتلوا مؤخراً رجلاً يُدعى “أمر الله” في قونية. كان أمر الله مسؤولاً عن إدارة مخابرات داعش في قونية، وحكم ثلاثة من أصدقائه في داعش بأنه قد ارتدّ عن الدين ويجب قتله. نحن أنفسنا تحت التهديد، ومنذ فترة فقط أبلغتني الشرطة بأنه يجب أن تعتني بنفسك. قد يهاجمونك بطائرات صغيرة دون طيار”.
کما يعتقد “مهمت بالجي أوغلو” القيادي السلفي في تركيا، والمعروف باسم “أبو سعيد ياربوزلو”، أن العديد من الاتهامات الموجهة ضد الجماعات السلفية من قبل الطرائق الصوفية غير صحيحة، وأن السلفية يجب التعرُّف عليها من السلفيين أنفسهم.
وقال خلال انتخابات 2018: “نحن لا نؤمن بالديمقراطية، لكننا سنصوِّت لأردوغان ونعتبر الكثير من أفعاله إيجابيةً”.
“محمود كار” وهو من مؤيدي نظرية ضرورة إقامة الخلافة في تركيا، أحد الأشخاص الذين يدعمون الشخصيات المتطرفة بحرية على تويتر.
قبل أيام، أعلنت قوات الأمن التركية أنها قد ألقت القبض على شخص يحمل الرمز التنظيمي “أبو حنظلة”، وهو من أهم قادة داعش. لكن محمود كار نشر صورةً عاطفيةً وقال بأن هذا الشخص هو “خالص بايانجوك” وهو مواطن تركي وتم اعتقاله وسجنه ظلماً.
من الواضح أن محمود كار ومن يتَّفقون معه في التفکير والرأي، يصفون العمليات الإرهابية لمن ذهبوا إلى سوريا من تركيا کمجاهدين وارتكبوا الجرائم بأنها جهاد، ويبررون هذه الأعمال.
إن الانتباه إلى الآراء المتناقضة لقادة الطرائق والجمعيات السلفية، يظهر أن تسليح الجمعيات السلفية والنفوذ المالي والسياسي الواسع للطرائق، يشكلان تهديداً محتملاً لتركيا، ونظراً إلی الجو الثنائي القطب الحادّ بين المتدينين والعلمانيين، فإن مثل هذا الأمر يمكن أن يشكل تهديدًا خطيرًا على مستقبل ترکيا.
ونقول في الختام، إنه بالنظر إلى النشاط التاريخي والمتجذر للطرائق الدينية والصوفية الحقيقية والعلمية في تركيا على مدى القرون الماضية، فمن المؤكد أنه ليس من الممكن الحکم علی جميعها بشکل متساوٍ.
إذ من بين الطرائق والجماعات الدينية فروع ومجموعات تهتم بالدين والمعتقدات المعرفية والتربية الإسلامية. إلا أن تعدُّد الجماعات وانحراف كثير منها نحو القضايا السياسية والمالية، وإساءة استخدام العواطف الدينية للناس والاستفادة من الفرص المالية والاستخباراتية الخاصة، حقيقة لا يمكن إنكارها.
المصدر/ الوقت