كيف ورَّط صندوق النقد الدولي الاقتصاد اللبناني
يعاني لبنان من ضائقة اقتصادية شديدة منذ شهور. وقد جعل الانفجار المروع في مرفأ بيروت يتصدَّر العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام. والسؤال المطروح الآن هو، ما هو المستقبل الذي ينتظر اللبنانيين؟
بالتأكيد في مثل هذه الحالة، تنتظر عروس الشرق الأوسط المساعدة الدولية. ومن المرجح أن تكون إحدى هذه المساهمات قرضًا من صندوق النقد الدولي.
نعتزم في هذا التقرير دراسة قرض صندوق النقد الدولي للبنان وتداعياته. وأولاً، علينا أن ننظر إلى الأزمة الاقتصادية اللبنانية وجذورها، من أجل النظر عن كثب في أبعاد وجوانب قرض صندوق النقد الدولي.
دولة ذات معدل فقر مرتفع
تظهر أبحاث الخبراء أن الاقتصاد اللبناني، كغيره من دول العالم، عانى بشدة خلال وباء كورونا. لكن مع وجود 45 في المائة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب البنك الدولي، وجَّه كورونا ضربةً قاضيةً لاقتصاد البلاد. وبحسب وزير الرعاية الاجتماعية اللبناني، فإن أكثر من 75٪ من السكان يعيشون حاليًا تحت خط الفقر.
کما أن نقص الدولار وانخفاض أسعار الليرة، جلبا للبنان متاعب في واردات القمح والنفط. في غضون ذلك، قطعت البنوك القروض قصيرة الأجل عن الشركات، ما جعل الكثير منها يعتمد على السوق السوداء.
خروج ودائع الناس إلی الخارج
وبحسب مسؤولين لبنانيين كبار، حوّل أصحاب خمسة بنوك خاصة نحو 2.3 مليار دولار من ودائع عامة في الخارج، وهذا جزء فقط من تحويل الأموال العامة من لبنان إلى دول أخرى، وهو ما لاقى احتجاجًا شديدًا من الناس.
ويقول مسؤولون لبنانيون إن أصحاب خمسة بنوك خاصة حولوا هذه الأموال إلى حسابات مصرفية في سويسرا في غضون ثلاثة أشهر من بدء الاحتجاجات الشعبية في 16 أكتوبر/تشرين الأول إلى 16 ديسمبر/كانون الأول 2019.
لقد نزل مئات اللبنانيين واللبنانيات في الأشهر الأخيرة إلى شوارع طرابلس وبيروت، وأشعلوا النار في عدد من البنوك احتجاجاً على الأزمة الاقتصادية والانهيار الكارثي للعملة الوطنية. وأغلق الناس الغاضبون مراراً الطرق السريعة وأضرموا النار في البنوك وأحرقوا سيارات الشرطة بزجاجات المولوتوف. واضطرت قوات الجيش اللبناني إلى استخدام الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع للسيطرة على الوضع، ما خلف عشرات الجرحى واعتقال عدد من المتظاهرين.
يواجه لبنان، الذي يمر بأسوأ فترات الأزمة الاقتصادية بسبب الديون الثقيلة، انخفاضًا حادًا في قيمة العملة الوطنية خلال الأشهر الستة الماضية. ويدين لبنان حاليًا بأكثر من 90 مليار دولار من الديون المحلية والأجنبية، وهو رقم كبير ومقلق للغاية، وليس من السهل سداده على الإطلاق.
ويقول محللون في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي إن السياسيين لم يدركوا بعد عمق المأساة، لكن عليهم أن يعلموا أن الناس نزلوا إلى الشوارع على مفترق طرق الحياة والموت، وإذا لم تتم معالجة هذا الاستياء ولم تتحقق مطالب الناس، فإن نهاية کورونا ستترك لبنان في حزن کبير لا يمكن إصلاحه.
نظرة على مشاكل لبنان منذ 30 عاماً
لفهم الأزمة الاقتصادية اللبنانية بدقة، نحتاج إلى النظر في جذور المشكلة اللبنانية والسياسات الاقتصادية على مدى السنوات الماضية. وهي السياسات التي شارك صندوق النقد الدولي في اعتمادها ودعمها.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية حربًا أهليةً متعددة الأوجه، استمرت من عام 1975 إلى عام 1990. في عام 1989، شكل اتفاق “الطائف” بداية نهاية الصراع. وتولی إعادة بناء لبنان “رفيق الحريري” أول رئيس وزراء منذ نهاية الحرب.
إختارت حكومة الحريري حلاً لبدء إعادة الإعمار، التي استمرت قرابة 30 عامًا. كان حل الحريري هو الاستثمار الأجنبي إلى جانب بيع السندات، أو بعبارة أخرى الاقتراض من الخارج.
تبنى البنك المركزي اللبناني سياسة سعر الصرف الثابت عام 1994، حيث حدد سعر كل دولار في السوق الحكومية بنحو 1500 ليرة لبنانية. وبهذه الطريقة، يمكن لكل ناشط اقتصادي أن يحصل على ضمان أنه يمكنه تحويل عملته بهذا الرقم.
من ناحية أخرى، من خلال تقديم أسعار فائدة عالية على الودائع بالعملات الأجنبية في البنوك اللبنانية، خلق البنك المركزي اللبناني مستوى عالٍ من الجاذبية للمستثمرين الأجانب.
وهکذا، مع توفير عملة البلد، تم توفير الموارد اللازمة لدفع الفوائد على الودائع السابقة من خلال توفير موجة جديدة من الودائع بالعملات الأجنبية. وبالطبع كانت نتيجة هذه السياسة زيادة ديون الحكومة والمصارف على النظام النقدي اللبناني.
عملت هذه الدورة بشكل جيد حتى وقت قريب. وطالما يستمر تدفق الودائع الأجنبية، فلن تكون هناك مشكلة، لكنها تظهر مشكلتها في خضم الأزمات العالمية.
حتى قبل أن يتسبب وباء كورونا في صدمة اقتصادية عالمية، كان كل شيء في حالة فوضى في لبنان. أسفرت سياسة سعر الصرف الثابت في لبنان من 1994 إلى 2019، عن نتائج غير ناجحة.
وبحلول عام 2019، بلغ ديون الحكومة اللبنانية 80 مليار دولار، أي ما يعادل 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتطلب دفع الفائدة على هذا الدين كل عام تخصيص ما يقرب من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، أي ما يعادل 5 مليارات دولار.
أزمة ديون لبنان
الأسباب التي أدت إلى انهيار هذه الدورة، كانت عدة أحداث متزامنة قللت من تدفق الأموال إلى لبنان. والحرب الأهلية في سوريا هي واحدة منها.
لطالما كانت سوريا إحدى أسواق التصدير الرئيسية للمنتجات اللبنانية، والتي تعطلت بسبب الحرب. کما انخفضت الأموال التي کانت تدخل البلاد من اللبنانيين المقيمين في مشيخات الخليج الفارسي، بسبب انخفاض أسعار النفط والبطالة. ويضاف إلی ذلك تراجع عائدات السياحة بسبب وباء كورونا والصدمة التي لحقت بالاقتصاد العالمي.
حدث كل هذا بينما كانت دورة الاقتراض والديون تقترب من نهايتها، ووصلت إلى مستويات لا يمكن السيطرة عليها. ونتيجةً لذلك، لم يستطع المصرف المركزي اللبناني انتظار ودائع جديدة لسداد قروض سابقة. وفي آذار 2020، اتخذ لبنان قرارًا تاريخيًا.
باختيارها عدم سداد ديون لبنان للدائنين الأجانب، خسرت حكومة رئيس الوزراء “حسان دياب” سجلاً مفاجئًا للغاية في سداد ديون لبنان الخارجية في الوقت المحدد. وهذا يعني أن النظام الاقتصادي اللبناني قد وصل إلى حافة الانهيار.
وفي مثل هذه الأجواء، يبدو أن صندوق النقد الدولي يظهر کمنقذ للبنان. حيث بدأ الصندوق عملية التفاوض بشأن القرض، ويلتقي بانتظام مع المسؤولين اللبنانيين. لكن هل يكون قرض الصندوق ألمًا أم علاجًا للبنان؟
دعم صندوق النقد الدولي لسياسات محددة
يشيد صندوق النقد الدولي بالسياسة النقدية لمصرف لبنان المركزي لدعم سعر صرف ثابت، ويقر بأن سعر الصرف الثابت هو ركيزة جيدة. وعلى الرغم من استقرار العملة في السياسة النقدية للبنك المركزي منذ أوائل التسعينيات، يتجاهل صندوق النقد الدولي التكاليف الباهظة لتثبيت الليرة اللبنانية.
لقد كان إحياء ودعم القطاع المصرفي بعد فترة إعادة الهيكلة، جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية البنك المركزي. في الأساس، كان دور البنك المركزي هو الوسيط بين مصالح الحكومة ومصالح البنوك التجارية، وكان ركيزةً أساسيةً للعلاقات المؤسسية والاقتصاد السياسي لفترة إعادة الإعمار لأغراض الاستقرار.
وبحسب الخبراء، فإن إحدى النتائج الرئيسية لتواطؤ البنوك بين البنوك التجارية والبنك المركزي، هي الاستقرار الاستثنائي لليرة اللبنانية، التي تم تداولها بنحو 1500 دولار منذ عام 1993.
يتناقض دور مصرف لبنان المركزي في تثبيت وتعزيز القطاع المالي المدعوم من صندوق النقد الدولي، مع الدور التنموي الذي مارسته البنوك المركزية تاريخياً في هذا القطاع، لدعم التمويل المتوسط والطويل الأجل للاستثمارات الإنتاجية، بما في ذلك الصناعة.
وهذا الأمر بالإضافة إلى خلق الأساس لارتفاع حاد في الدين العام للقطاع المصرفي، فقد سمح لكبار المشترين لأذونات الخزانة، الذين عانوا من انخفاض معدلات كفاية رأس المال في نهاية الحرب الأهلية، بتحقيق أرباح متصاعدة والبقاء على قيد الحياة دون قاعدة اقتصادية مناسبة.
كما زادت ثروة النظام المصرفي بشكل كبير بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت البنوك التجارية مشتريةً للسندات الصادرة عن الحكومة، وتم السماح لها بتعديل ميزانياتها لتجنب التهديدات المحتملة بانهيار العملة.
تحليل الصندوق غير الصحيح
لم يقم صندوق النقد الدولي بتقييم دور القطاع المصرفي بشكل صحيح في تمويل القطاع الخاص وتوفير السيولة للاستثمارات. يتحول توزيع القروض المصرفية الخاصة في الاقتصاد اللبناني إلى الأنشطة الريعية، حيث يتم دفع 34٪ من القروض بالتساوي بين البناء والتشييد (16.7٪) والإسكان (17.2٪). ويشير هذا الاتجاه إلى حد كبير إلى حقيقة أن معظم البنوك التجارية في لبنان مرتبطة بالسياسة.
ثمانية عشر من أصل 20 مصرفاً تجارياً في لبنان لها مساهمون رئيسيون في النخبة السياسية، ويمكن أن تُعزى 43 في المائة من أصول القطاع المصرفي إلى السيطرة السياسية. وقد لعب هذا الأمر في البنوك التجارية اللبنانية دورًا رئيسيًا في رداءة نوعية القروض المصرفية، وتخصيص الائتمان غير المنتج، والتعرُّض للدين العام.
نقطة أخرى مهمة هي أن صندوق النقد الدولي دعا في تقريره مصرف لبنان المركزي إلى “استخدام سعر الفائدة كأداة أكثر مباشرةً وأسهل لصنع السياسات لحماية تدفقات النقد الأجنبي”، وقد ثبت أن أسعار الفائدة المرتفعة يمكن أن تخلق بيئةً استثنائيةً تمنع الإنتاج الإيجابي في القطاع الخاص.
وهذا سيؤدي إلى زيادة سعر الصرف الحقيقي، وهو أحد أسباب ظاهرة المرض الهولندي الذي يضعف القطاعات التجارية والصناعية لصالح القطاعات غير التجارية، مثل التمويل والبناء والعقارات وما إلى ذلك.
وبالمثل، أدت معدلات الفائدة المرتفعة تاريخياً إلى ارتفاع أسعار الفائدة على ودائع وسندات الخزانة اللبنانية، فأدت إلى الانحراف عن الائتمان لأغراض مرغوبة، بما في ذلك الأنشطة الصناعية وغيرها من المنتجات. وتسببت أسعار الفائدة المرتفعة في وضع لا يرتبط فيه القطاع المالي بالاقتصاد الحقيقي، وضاعت الفرص الاقتصادية لمعظم الأفراد والمؤسسات.
المشكلة الرئيسية هي أسعار الفائدة السخية التي لا أساس لها، والتي يدفعها البنك المركزي للبنوك المحلية مقابل ودائع بالدولار لدى البنك المركزي. ولا يقتصر الأمر على عدم اهتمام صندوق النقد الدولي بهذه المشكلة في تقريره، بل يشجع البنك المركزي على استخدام هذه الأداة.
وهذا يعني أنه لكي يواصل لبنان خطته لزيادة رأس المال بالدولار الأمريكي، فيجب أن يوفر للمودعين هوامش أعلى أو معدلات فائدة أعلى من المعدلات الدولية. ونتيجةً لذلك، يزيد ذلك من عبء ديون البنك المركزي، کما يزيد الضغط على الوضع الاقتصادي في لبنان.
التوصيات التي أدت إلى اقتصاد ريعي
وبالتالي، يمكن الافتراض أن الدور الذي لعبته السياسات النقدية المدعومة من صندوق النقد الدولي ومصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية، كان عاملاً حاسماً في بناء اقتصاد قائم على التمويل والريع.
وفي الواقع، إن هيكل النظام النقدي في لبنان واستخدام إدارة الدين العام من قبل البنك المركزي لتحقيق أهداف نقدية على حساب خسارة احتياطيات النقد الأجنبي، إلى جانب السلوك الريعي من قبل البنوك التجارية السياسية، كلها عوامل رئيسية في الأزمة الحالية. وهو الأمر الذي لا يوليه صندوق النقد الدولي اهتماماً مناسباً في تقاريره.
والأمر الآخر هو السياسة الضريبية للصندوق، والتي بدلاً من أن تكون وسيلةً للإدارة الاقتصادية للتأثير على حوافز النمو المستدام والشامل، بات وسيلةً لتحصيل الإيرادات وتسعى إلى سداد الديون بدلاً من ضمان التوسع في الاستثمار العام والتكاليف الاجتماعية الأخرى.
تم تحديد العناصر المختلفة للسياسة الاقتصادية والنقدية والمالية وسياسة أسعار الصرف بطريقة متحفظة للغاية، بما يتماشى إلى حد كبير مع المنطق السائد لصندوق النقد الدولي. وقد أدى ذلك إلى إنشاء اقتصاد مالي على حساب الاقتصاد الحقيقي، واكتظاظ الاستثمار، وإضعاف التصنيع، الأمر الذي عمَّق التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.
لذلك، تقع على عاتق صندوق النقد الدولي في المقام الأول مسؤولية التوصية بسياسات فعالة ومستدامة، وتحديد المشاكل الهيكلية للبلدان ومنعها من السياسات المدمرة والخاطئة. في حين لم يتضح بعد ما إذا كان يمكن وصف دور صندوق النقد الدولي في لبنان في مواجهة مختلف الحكومات المختلفة تواطؤ أم لا.
يبدو أن هذا الأمر يؤكد النظرية القائلة بأن الغرض من سياسات صندوق النقد الدولي المقترحة، هو التحكم في الوضع الاقتصادي للدول والحفاظ عليه في الظروف المواتية التي تريدها القوى الغربية، بدلاً من نمو اقتصادات الدول. ومما لا شك فيه أن منظمةً هدفها الأساسي هو تعزيز مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لا يمكنها التحرك في أي اتجاه آخر.
الصندوق يصبّ الزيت علی نار أشعلها هو
يبدو الآن أن صندوق النقد الدولي يخطط لصبّ الزيت علی نار کان مشارکاً في اشتعالها.
بناءً على طلب الحكومة اللبنانية، توجهت مجموعة خبراء من صندوق النقد الدولي برئاسة “مارتن سيريزولا” إلى بيروت. والتقى ممثلو الصندوق برئيس مجلس الوزراء ونائبه ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية وعدد من الوزراء والمسؤولين التنفيذيين، وكذلك “نبيه بري” رئيس مجلس النواب وبعض النواب لمناقشة الخطط الاقتصادية والحكومية لحل الأزمة اللبنانية. وسيعلن صندوق النقد الدولي شروطه للإقراض في نهاية عملية التفاوض الجارية.
الإقتصاد في خدمة فئات محددة
في أعقاب أزمة الديون في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، طوَّر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية حزمة إصلاح موحدة للبلدان المتضررة، تعرف باسم “إجماع واشنطن”. تضمنت حزمة الإصلاحات هذه توسيع القطاع الخاص المحلي، والانفتاح على الأسواق العالمية واستقرار الاقتصاد الكلي.
تتجاهل طبيعة الحزم، التي يتم تصميمها عادةً بنفس النموذج لجميع البلدان، تأثير الإصلاحات على الشرائح الضعيفة في المجتمع. وكانت نتيجة سياسات التحرير والخصخصة هذه عادةً تكوين طبقة تستفيد من الريع الحكومي، وتحويل أموال الدولة إلى الجينات الجيدة، واتساع فجوات الثروة ، وتقليل المنافسة في السوق.
إذا تلقى لبنان تمويلًا من خلال صندوق النقد الدولي، فسيكون مرشحًا محتملاً للعديد من الإصلاحات المتوخاة في إجماع واشنطن. في الواقع، أصدر صندوق النقد الدولي تقرير المادة 4 في أكتوبر 2019، والذي يحدد الإصلاحات المقترحة للبنان.
والعناصر الرئيسية لهذا التعليم هي: زيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة وضريبة الوقود، تحسين جباية الضرائب، الخصخصة، خفض تكاليف القطاع العام وتنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء. وستكون لهذه الإصلاحات عواقب وخيمة على المواطنين اللبنانيين.
ضغوط لرفع الضرائب وأسعار الوقود
يدعو صندوق النقد الدولي لبنان بالتأكيد إلى رفع معدلات ضريبة القيمة المضافة كجزء من حزمة الإنقاذ. اليوم، يتعين على المستهلكين اللبنانيين دفع ضريبة القيمة المضافة الإضافية بنسبة 11 في المائة عند شراء السلع أو الخدمات. ويقترح تقرير المادة 4 زيادة معدل ضريبة القيمة المضافة إلى 15٪ أو حتى 20٪.
بشكل منفصل، يقترح صندوق النقد الدولي أيضًا أن يزيد لبنان الضريبة على استهلاك البنزين بمقدار 5000 ليرة لبنانية لكل 20 لترًا. وتوقعت دراسة أُجريت عام 2010 أن زيادة ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5٪ ستزيد عدد اللبنانيين الذين يعيشون في فقر مدقع من 30٪ إلى 50٪. هذا في حين أن 75٪ من اللبنانيين يعيشون الآن تحت خط الفقر!
ومع ذلك، فإن الصندوق يجهل تمامًا معدلات الضرائب المنخفضة للأثرياء في لبنان، وهو أمر غير عادل. وبموجب النظام الحالي، يُطلب قانونًا من أصحاب الدخل الأول من اللبنانيين(الذين يكسبون في المتوسط 91000 دولار في السنة)، دفع ضريبة دخل بنسبة 20 بالمائة فقط. وبالمقارنة، فإن أعلى معدل ضريبة متوسط في الدول الأوروبية يبلغ حوالي 42٪.
في بلد يتقاسم فيه 10٪ من الأفراد حوالي 55٪ من الدخل، تعد ضريبة الدخل مصدرًا ضخمًا للدخل، لم يتم استخدامه بعد. ويؤدي رفع أعلى معدل ضرائب هامشية في لبنان إلى 40٪، إلى زيادة الإيرادات الحكومية بسرعة.
الخصخصة السريعة
تظهر خصخصة الأصول الحكومية عادةً في الإصلاحات التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي في الاقتصادات التي تم إصلاحها، ولا شك أنها تثار في المفاوضات بشأن أي مساعدة مالية.
والخصخصة السريعة تتعارض مع مصالح لبنان على المدى الطويل. أولاً، لا يدرّ بيع أصول الحكومة اللبنانية الكثير من المال في الوقت الحالي، بسبب الأداء المزمن والضعيف والأزمة الاقتصادية الحالية.
وسيكون سعر شراء هذه الأصول، حتى في قطاع الهاتف المحمول والاتصالات، والذي يعد ثاني أهم مصدر للإيرادات بعد ضريبة القيمة المضافة، عند أدنى نقطة له، مما يؤدي إلى مزاد على الأصول الحكومية.
والأهم من ذلك، أظهرت النخب السياسية اللبنانية أنه لا يمكن الوثوق بها في الخصخصة. والبيع الرخيص للممتلكات الحكومية في البيئة الإدارية الحالية، يحوِّل الاحتكارات العامة إلى احتكارات خاصة. وبدلاً من ذلك، لا ينبغي النظر في الخصخصة إلا على المدى المتوسط والطويل، عندما تتمكن الحكومة القادمة من التفاوض على البيع من موقع القوة.
إن تقليص حجم القطاع العام وتقليل عدد الموظفين الحكوميين، هو إصلاح آخر محتمل سيقترحه صندوق النقد الدولي. تدفع الحكومة اللبنانية حاليًا رواتب لحوالي 300 ألف شخص سنويًا، بتكلفة تبلغ حوالي 6.4 مليار دولار سنويًا. کما أن 300 ألف موظف حكومي غير كافيين لتلبية احتياجات البلاد.
بدلاً من ذلك، فإن الحكومة ليست فعالةً بما فيه الكفاية. ويمكن أن يؤدي الإصلاح الحقيقي للخدمات الاجتماعية، إلى تحسين الكفاءة الإدارية للحكومة دون الحاجة إلى تقليص السلطة والإطاحة بالحكومة. كما أنه يمنع عواقب الممارسات المتطرفة على تقليص حجم القطاع العام، ويمنع المزيد من الأسر اللبنانية التي تعتمد منذ فترة طويلة على دخلها على الوظائف الحكومية، من الفقر.
رفع سعر الكهرباء
هناك مسألة مهمة أخرى في تقارير الصندوق، وهي التوصية بتقليص وإلغاء ضخ الموارد في شركة الكهرباء اللبنانية في نهاية المطاف، ولذلك يجب زيادة متوسط تعرفة الكهرباء. ولهذه الغاية، يوصي الصندوق بزيادة الرسوم الجمركية لمستويات استرداد التكاليف.
وعلی الرغم من أن رفع الرسوم الجمركية على تكلفة الاسترداد أمر معقول اقتصاديًا، ولکن فإن مثل هذا الاقتراح لا يقدم حلاً طويل الأجل ومستدامًا لقطاع الكهرباء منخفض الطاقة في لبنان. والمادة 4 لتقرير صندوق النقد الدولي يقترح زيادةً فوريةً في تعرفة الكهرباء.
ومع ذلك، فمن غير المعقول أن نتوقع من المستهلكين أن يدفعوا المزيد مقابل نفس المستوى من الخدمة، خاصةً إذا استمروا في سداد فواتير الطاقة لمشغلي التوليد الخاصين؛ مثل استهلاك الوقود، فإن رفع الرسوم الجمركية بطريقة موحدة سيكون له تأثير معاكس، مما يجعل اللبنانيين الفقراء يدفعون ما يدفعه الأغنياء.
من الواضح تمامًا أن الطبخة التي أعدّها صندوق النقد الدولي للبنان غير مستدامة ولا مرغوب فيها. والإصلاحات المقترحة من صندوق النقد الدولي، والتي تعتمد بشكل أساسي على سداد قروض الصندوق، ستجعل لبنان يغوص أكثر في الركود، ويزيد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويزيد عدم المساواة.
بينما يستعد صندوق النقد الدولي لتقديم المساعدة المالية، يجب على لبنان أن يأخذ بعين الاعتبار مصالحه وتفضيلاته. ويتسبب النهج السلبي في قيام صندوق النقد الدولي وأي مانح آخر بفرض أجندتهم في بلد يمرّ حاليًا بحالة انهيار.
الصندوق في خدمة الغرب
صندوق النقد الدولي هو مؤسسة انبثقت من الحرب العالمية الثانية، وكان هدفه الأساسي تأمين مصالح القوى الغربية. ولذلك، ليس من المستغرب أن تستخدم هذه الدول الصندوق كأداة، ليس فقط في المجال الاقتصادي ولكن أيضًا لتحقيق أهداف سياسية.
وبلغت الأسهم المجمعة للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا واليابان وفرنسا وكندا في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، 46.13 و 40.76 في المائة على التوالي. ومن المسلم به أن الولايات المتحدة لديها فرصة أكبر للسيطرة على المؤسستين، من خلال الاستفادة من حصتها البالغة 16.77 و 16.48 في المائة في الصندوق والبنك الدولي.
من ناحية أخرى، فإن حق الدول في التصويت في صندوق النقد الدولي يساوي حصتها. ويشترط السياسيون في هذه الدول الموافقة على إقراض دول العالم الثالث في مجلس إدارة الصندوق، بأن تکون سياسات هذه الدول مواءمةً مع سياساتهم.
لبنان من أبرز الأمثلة التي يحدث هذا الأمر فيه بشكل أوضح. بحيث أنه منذ بداية النقاش حول طلب لبنان من صندوق النقد الدولي للحصول على قروض، صرح سياسيون غربيون بأنهم سيسمحون لصندوق النقد الدولي بتقديم التسهيلات للبنان، إذا تم عدم مشارکة حزب الله في الحكومة اللبنانية.
هذه المرة، لم يکتف الأمريكيون بضغوط أحادية الجانب، بل ضغطوا على القوى الغربية الأخرى للتحرك وفقًا لسياساتها. وقد كتبت صحيفة “الأخبار” مؤخراً عن ذلك بالقول: “إن آخر تحرك أميركي في هذا الصدد هو الضغط على باريس. لقد لخص الأميركيون بشكل صريح ومباشر موقفهم من لبنان كالتالي: لا استخراج نفط في لبنان، ولا مساعدة من صندوق النقد الدولي في عهد ميشال عون، ولا وجود لحزب الله في الحكومة. وهدد الجانب الأمريكي فرنسا بأنها إذا لم تنتبه لذلك، فإنها ستتكبد خسائر كبيرة في أجزاء أخرى من العالم استثمرت فيها”.
بعد تشكيل حكومة “حسان دياب”، أصبح النهج الأمريكي أكثر وضوحًا وشفافيةً. ففي اليوم الثاني بعد تشكيل هذه الحكومة، بشَّر بومبيو اللبنانيين بـ “أزمة مالية رهيبة”، وجعل مساعدات بلاده مشروطةً بـ “مدی استعداد الحكومة اللبنانية الجديدة لاتخاذ إجراءات تمنع حزب الله من أن تأخذ الحکومة رهينةً”.
وتحت العنوان ذاته، أجرى نائبه “ديفيد شينكر” مقابلةً مع موقع “الهديل” الإخباري اللبناني، وكرر تصريحات مماثلة. کما كرر بومبيو في وقت لاحق تهديداته، قائلاً إن تكلفة المساعدة التي يريدها لبنان، هي انقلاب على حزب الله.
الإصطفاف الخطير الذي تشکل ضد الشعب اللبناني والمقاومة اللبنانية، أثار رد فعل حزب الله اللبناني. حيث قال نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ “نعيم قاسم”: “نحن لا نقبل أن نخضع لأدوات استكبارية في العلاج، أي لا نقبل الخضوع لصندوق النقد الدولي ليدير الأزمة، ولا نقبل الاعتماد على صندوق النقد الدولي لإدارة الأزمة. لكننا لا نعتبر استشارة الحكومة مع صندوق النقد الدولي خاطئةً”.
کما قال “السيد حسن نصر الله” في كلمة متلفزة في 13 آذار/مارس، إن “أي دعم دولي لإخراج لبنان من هذه الأزمة المالية والاقتصادية المعوقة، يجب أن يكون خالياً من الظروف التي تضر بالفقراء أو بالمصالح الوطنية للبلاد”. وكان السيد حسن نصرالله قد صرح بأنه لن يسمح لصندوق النقد الدولي بإدارة الأزمة اللبنانية.
ونتيجة اصطفاف أعداء المقاومة هو استقطاب المجتمع اللبناني ومحاولة عزل حزب الله. حيث تحاول بعض وسائل الإعلام في لبنان إلقاء اللوم على حزب الله في مشاكل لبنان، وإظهار أن حزب الله لا يسمح للحكومة بأن تسلك الطريق الذي يمكن أن يحل مشاكل الناس، وذلك من أجل مصالحه.
وفي هذا السياق، أفاد موقع “نشنال نيوز” الإخباري أن حزب الله يعارض برنامج صندوق النقد الدولي، لأنه يخشى أن تمارس شروط الصندوق المزيد من الضغوط عليه.
کما كتبت وكالة “المشارق” للأنباء تقريراً بعنوان “تصرفات حزب الله تهدد الاقتصاد اللبناني”، وقالت فيه إنه “ليس للبنان خيار سوى قبول المساعدة الدولية من صندوق النقد الدولي، وزعيم حزب الله حسن نصر الله ليس في وضع يسمح له بفرض شروطه، وطالما تستمر حكومة حسان دياب، تحت راية حكومة التيارات المستقلة والتكنوقراطيين، في التشاور سراً ودعم مواقف حزب الله، فلن يتمكن المجتمع الدولي من مساعدة لبنان”.
وأشار التقرير إلى أن الوضع لن يتغير طالما أن حزب الله، وبأوامر وتعليمات إيرانية، يضغط على السياسة الخارجية اللبنانية، ويغير نهجها لخدمة مصالح المقاومة.
وفي حديث لـ المشارق، شدد “حسن قطب” مدير المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات، على أن اللبنانيين سيلومون الحزب تدريجياً على الوضع الحرج وغير المواتي الذي نشأ في البلاد.
السيد حسن نصر الله وفي كلمة ألقاها بمناسبة يوم القدس، تحدث عن خطة الإنقاذ الاقتصادي للبنان. وقال إن “حزب الله لا يعارض مبدأ طلب المساعدة من أي جهة في العالم، ولكنه لا يقبل أن يضع لبنان رقبته تحت سيف صندوق النقد الدولي”.
الشروط المفروضة
في مثل هذه الأجواء، يبدو أن صندوق النقد الدولي يظهر کمنقذ للبنان. لقد بدأ الصندوق عملية التفاوض بشأن القرض، ويلتقي بانتظام مع المسؤولين اللبنانيين..
على ما يبدو، ما يحدث هو إنقاذ للاقتصاد اللبناني، لكن شروط صندوق النقد الدولي وما يفرضه من قيود على الاقتصاد اللبناني لسنوات قادمة، ستجعل اعتماد الحكومة اللبنانية على الصندوق، وبالتالي مطالب الولايات المتحدة والغرب، أمراً لا رجعة فيه.
وفي المقابل، تضع الولايات المتحدة والکيان الإسرائيلي وحلفاؤهما الأوروبيون، الحكومة اللبنانية والمجتمع اللبناني في مواجهة مستمرة مع حزب الله ومحور المقاومة، بذريعة مكافحة الإرهاب.
من خلال الإقراض، سيسيطر الصندوق على تدفق المعلومات الاقتصادية اللبنانية لسنوات، ومن خلال تحديد البنوك اللبنانية والمبادلات المالية، سيهاجم القطاعات الاقتصادية المرتبطة بحزب الله، ويسعى لعزل حزب الله اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا في لبنان.
المصدر/ الوقت