فرنسا تكافئ عملائها إبان احتلال الجزائر.. ماذا عن “مصالحة الذاكرة” بين البلدين
في الوقت الذي تمضي فيه الجزائر نحو رد الاعتبار بعد ما عانته من إجرام المستعمر الفرنسيّ بعد حرب طاحنة دامت سبع سنوات، وأنهت قرناً أو أكثر من الاستعمار الفرنسيّ وبالتالي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1962، يناقش البرلمان الفرنسيّ الخميس القادم، مشروع قانون “اعتذار وتعويض” الحركيين الجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب القوات الفرنسيّة خلال “حرب التحرير الجزائرية” بين عامي 1954 و 1962، رغم ادعاء باريس بأنّها تتخذ خطوات لرسم علاقات مختلفة مع الجزائر التي عانت بشدّة من جرائم الفرنسيّين وربما ما زالت، فمن منهم يستطيع أن ينسى جريمتي تلغيم الحدود، وإجراء التجارب النوويّة في الصحراء الجزائريّة، اللتان ما تزالان تحصدان أرواح الأبرياء إلى يومنا هذا.
مراراً زعم الرئيس الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، أنّه يرغب بتعزيز المصالحة بين الشعبين الفرنسيّ والجزائريّ، بيد أنّ ما تسمى “الجمعية الوطنية” الفرنسيّة تنظر في مشروع القانون، الذي يعتبر ترجمة قانونيّة مباشرة لخطاب الرئيس الفرنسيّ والذي ألقاه في 20 أيلول/ سبتمبر المنصرم بحضور ممثلين عن “الحركيين” (عملاء فرنسا إبان معركة التحرير) خلال حفل تكريميّ، ما يعني أنّ باريس لا تملك إرادة حقيقيّة لطي هذا الملف الحساس نهائياً، باعتبار أنّ “الحركي” يعني في الجزائر “العميل والخائن”، ويطلقها الجزائريون على الذين حاربوا إلى جانب قوات الاحتلال الفرنسيّ خلال حرب التحرير، سواء بحمل السلاح في وجه أبناء وطنهم من الجزائريين، أو الذين اعتمدوا الوشاية لكشف مخططات جيش التحرير وتحركات المقاومين.
وفي ظل عدم الإقرار الفرنسيّ الرسميّ بجرائم استعمارهم للجزائر، يسعى الرئيس ماكرون إلى رد الاعتبار لعملاء فرنسا الذين حاربوا إلى جانب الاستعمار الفرنسيّ وطلب الصفح منهم باسم بلاده، وهو أول رئيس فرنسيّ طلب “الاعتذار” من الحركيين وعائلاتهم، ما يدل على أنّ باريس لا يمكنها التخلص بسهولة من أعباء الإرث التاريخي المُعيب والدمويّ، وعلى رأسهم الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون”، رغم أنّه قام وبكل جُرأة بوصف الاستعمار الفرنسيّ للجزائر بالجريمة ضد الإنسانية، وذلك في حملته الانتخابيّة.
ورغم الجرائم البشعة والاستبداديّة التي ارتكبها الفرنسيون خلال فترة استعمارهم للجزائر، رصدت باريس 50 مليون يورو أي ما يزيد عن 56 مليون دولار أمريكي، في مشروع موازنة العام 2022 لصرف التعويضات للعملاء، حيث علقت الوزيرة المنتدبة المكلفة بشؤون الذاكرة وقدامى المحاربين، جينيفيف داريوسيك، على ظروف حياة الحركيين في البلاد بعد نهاية حرب التحرير الجزائريّة، معبرة أنّها “صفحة قاتمة لفرنسا”.
وفي عرقلة لمساعي الجزائر وفرنسا التي تهدف إلى إحراز تقدم في جو من الحقيقة والصفاء والهدوء لحل أعقد المشاكل التاريخيّة التي تعكر العلاقات السياسيّة بينهما، يشمل مشروع القانون الفرنسي خطوات رمزية وأخرى عملية، ويعترف بـ”الخدمات التي قدمها في الجزائر حوالي 200 ألف من الحركيين كمساعدين في التشكيلات المساندة لجيشها خلال حرب التحرير ثم تخلت عنهم أثناء عملية الاستقلال”، كما يعترف نص القانون بظروف الاستقبال غير اللائقة لاستقبال 90 ألفا من العملاء وعائلاتهم الذين فروا من الجزائر بعد استقلالها.
أيضاً، ينص مشروع القانون على “التعويض” عن هذا الضرر مع مراعاة طول مدة الإقامة في تلك الأماكن، يشمل المقاتلين العملاء السابقين وزوجاتهم الذين استقبلوا بعد عام 1962 في ظروف غير لائقة، وكذلك أطفالهم الذين جاؤوا معهم أو ولدوا في فرنسا، وفقاً لمقررة مشروع القانون المنتمية لحزب الرئيس “الجمهورية إلى الأمام”، باتريسيا ميراليس، حيث استقبلت فرنسا بعد الاستقلال الجزائريّ عشرات الآلاف من المجندين تحت إمرتها برفقة زوجاتهم وأطفالهم في “مخيمات موقتة” لا تتوفر فيها ظروف العيش الكريم.
يشار إلى أنّ الجزائر منتصف العام المنصرم استعادت رفات 24 مقاتلاً من فرنسا، كانوا قد استشهدوا في مقاومة قوات الاحتلال الفرنسيّ في القرن التاسع عشر، وكانت جماجم بعضهم معروضة في متحف في العاصمة الفرنسيّة باريس، حيث كشف الرئيس الجزائريّ، “عبد المجيد تبون”، عن هذه الخطوة ضمن حفل عسكريّ، بعد احتجاز قسريّ لجماجم المقاتلين الجزائريّين لأكثر من 170 عاماً في متحف “التاريخ الطبيعيّ” في العاصمة الفرنسيّة، وقد استقبلت الجزائر رفات 24 شهيداً من رموز المقاومة الشعبيّة ضد الاحتلال الفرنسي، كانوا قد أعدموا من قبل قوات الاستعمار ونُكلّ بجثثهم، ومن ثم ترحيل رؤوسهم إلى فرنسا، بحجة اجراء دراسات “علم الإنسان” أو ما يسمى “الأنثروبولوجية”.
ووقتها، ذكر رئيس أركان الجيش الجزائري، “الفريق السعيد شنقريحة”، أنّ هؤلاء الأبطال قضوا أكثر من قرن ونصف في غياهب الاحتلال ظلماً وعدواناً، وكانوا محل ابتزاز ومساومة ما أسماهم “لوبيات بقايا الاحتلال”، ووصفهم بـ “دعاة العنصرية”، إلى أن تحقق هذا اليوم الذي تستكمل به مقومات السيادة الجزائريّة، وذلك في كلمة ألقاها خلال المراسم، فيما أكّد مستشار رئيس الجمهوريّة المكلف بالأرشيف الوطنيّ وملف الذاكرة الوطنيّة، “عبد المجيد شيخي”، أنّ الجزائر لن تتراجع أبداً عن مطالبتها باسترجاع أرشيفها المتواجد في فرنسا، منوهاً إلى أنّ “باريس لا تملك إرادة حقيقية لطي هذا الملف نهائياً”.
في النهاية، إنّ الرغبة المشتركة في مصالحة الذاكرة بين الفرنسيين والجزائريين، على الرغم من “بعض الرفض” في الجزائر، لن تتم إلا في حال كانت فرنسا جادة بالفعل في طي تاريخها الأسواد وجرائمها الكثيرة إبان فترة استعمارها، خاصة أنّ بعض الجزائريين ينظرون إلى فرنسا باعتبارها “عدواً تقليديّاً”، بعد ما عانته البلاد من إجرام المستعمر الفرنسيّ، وإنّ تصرفات فرنسا لا توحي أبداً بأنّها ترغب في عودة المياه إلى مجاريها بين البلدين، وعلى كافة المستويات.
بمعنى آخر، إنّ نجاح فرنسا ماكرون في محاولات طي تاريخها الإجراميّ البشع مع الجزائر، نجاحٌ مرهون بجدية فرنسا ومدى وثوق الجزائريين بباريس وحكومتها، عقب الجرائم البشعة التي ارتكبها أسلافهم بحق هذا البلد و31 بلداً آخر، في الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 1534 و 1980.
المصدر/ الوقت