عقب التطبيع السعوديّ – التركيّ.. هل نجح محمد بن سلمان في التنصل من “جريمة خاشقجي”؟
في ظل الأوضاع المتدهورة في الشرق الأوسط والتبدلات السياسيّة الحاصلة، تعود المياه إلى مجاريها بقوّة في العلاقات السعوديّة – التركيّة، حيث طلب المدعي العام التركيّ من إحدى محاكم البلاد تعليق محاكمة غيابية تشمل 26 سعوديا مشتبه بهم في قتل وتقطيع الصحافيّ السعوديّ الشهير، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 وإحالة القضية إلى السلطات السعودية، وذلك بعد تدهور غير مسبوق للعلاقات بين الرياض وأنقرة منذ ذلك الحين، مع تناقض سياسة البلدين في العديد من الصراعات والتدخلات الإقليميّة.
تبدل كبير
يعكس طلب المدعي العام التركي من المحكمة التي قالت إنها ستطلب رأي وزارة العدل التركية وحددت موعد الجلسة القادمة في السابع من أبريل/ نيسان القادم، آفاق التقارب السعوديّ – التركيّ، خاصة أنّ قضية خاشقجي المنتقدي الأبرز لولي العهد السعوديّ، محمد بن سلمان، تعد من أهم القضايا التي تؤرق حياة الأخير على المستوى الدوليّ، فيما يعتقد مسؤولون أتراك أن جثمان الصحافيّ المعارض تم تقطيعه والتخلص منه، ولم يتم العثور على أشلائه أبداً، وفقاً للادعاء التركيّ.
ولم تأبه السلطات التركيّة للتقرير الأمريكيّ الذي صدر العام الفائت واستند في حكمه على أنّ ولي العهد السعوديّ، لديه سيطرة مطلقة على أجهزة الأمن والاستخبارات في البلاد منذ توليه عام 2017، ما يجعل من المستبعد جداً أن يقوم مسؤولون سعوديون بتنفيذ عملية كهذه دون ضوء أخضر منه، ما يعني أنّه أيّد استخدام العنف كوسيلة لإسكات المعارضين في الخارج، حيث يأتي الموقف تركيا التي تعيش أوضاعاً اقتصاديّة صعبة وتورط بملفات شائكة في أكثر من بلد عربيّ كسوريا وليبيا، في ظل تصاعد الضغط الحقوقيّ الدوليّ على الرياض بعد اثبات تورط محمد بن سلمان في جريمة خاشقجي، عقب سنوات من المنع الذي فرضته إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب، على نشر الحقائق.
ولا يمكن أن ننسى الانتقادات الدوليّة التي وجهت للمحكمة السعودية، في سبتمبر/ أيلول عام 2020، والتي قضت بسجن 8 أشخاص لمدد تتراوح بين سبعة أعوام و20 عاماً لدورهم في عملية القتل، في محاكمة وصفت بـ “غير الشرعيّة” والتي تفتقر إلى الشفافية حيث لم يعلن عن اسم أي من المتهمين، وبعد المحاكمة داخل السعودية طلبت المحكمة التركية من وزارة العدل في نوفمبر/ تشرين الثاني إرسال كتاب للرياض تسأل فيه عن أولئك الذين حُكم عليهم في المملكة، لتفادي خطر تعرضهم للعقاب مرتين، وذكر المدعي العام التركي إنّ الرياض ردت بطلب إحالة القضية إليها وإلغاء ما يسمى بـ “النشرات الحمراء” الصادرة ضد المتهمين، وتعهدت بالنظر في الاتهامات الموجهة للمتهمين الـ26 إذا أحيلت القضية إليها، زاعماً أنّه لايمكن رفض الطلب لأن المتهمين كانوا مواطنين أجانب ولا يمكن تنفيذ مذكرات الضبط والنشرات الحمراء ومن ثم لا يمكن أخذ أقوالهم، وهو ما يعني بقاء القضية معلقة دون حسم، بحسب زعمه.
وإنّ اتخاذ أنقرة لتلك القرارت من شأنه وفقاً لمراقبين “المساس بسيادة تركيا” كما من شأنه المساس بقيادتها واستقلال قضائها، باعتبار ذلك تأييداً واضحاً وصريحاً لجرائم محمد بن سلمان الشنيعة في الداخل والخارج، مقابل إعادة العلاقات إلى سابق عهدها بين أكبر اقتصادين في الشرق الأوسط، حيث تراجعت العلاقات التجارية بين بينهما بشكل كبير في السنوات الأخيرة نتيجة التوترات السياسية، لكن ووفقاً للمعطيات السياسيّة فكلاهما يسعيان الآن إلى تطوير العلاقاتهما الثنائية للمساعدة في تعزيز اقتصادات كل منهما وبالأخص تركيا التي تطالب السعودية بإنهاء مقاطعتها “غير الرسميّة” للبضائع التركية، بسبب العلاقات المتوترة.
ومن الجدير بالذكر، أنّ التقارب الأخير مع السعودية لم يأت دون مقدمات وبشكل مفاجئ، لكن في العام الفائت بذلت تركيا ومصر جهودًا دبلوماسية كبيرة لتخفيف خلافاتهما حول ما يُطلق عليه “الربيع العربي” والانقلاب العسكريّ في مصر عام 2013، إضافة إلى تطبيع العلاقات بين كل من الإمارات وتركيا بعد قيام ولي العهد الإماراتيّ، محمد بن زايد، بزيارة إلى أنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني ، حيث عقد اجتماعاً مع الرئيس التركيّ، رجب طيب أردوغان، كما ووقع البلدان صفقات استثمار في مجال الطاقة والتكنولوجيا، في أول زيارة رسمية لولي العهد الإماراتي إلى تركيا منذ عقد من الزمن.
وإنّ “الشعرة” السياسيّة بين كل من الرياض وأنقرة لم تنقطع أبداً رغم تجمد العلاقات التركية – السعودية بعد جريمة خاشقجي، حيث واصل أردوغان والملك سلمان تبادل الرسائل، وأبقيا القناة مفتوحة رغم كل التوترات، وفي يوليو/ تموز 2021 ، التقى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بنظيره السعوديّ فيصل بن فرحان، ووصف الاجتماع بأنه “اجتماع مثمر”، وأعلن المتحدث الرئاسي التركي، إبراهيم كالين، في أغسطس / آب ، عن بعض التطورات الإيجابية التي يمكن أن تنهي جمود العلاقات بين البلدين، وفي أواخر العام 2021 ، تحسن التواصل بين الدولتين حيث أوضح جاويش أوغلو أنه إذا اتخذ الجانبان خطوات جدية، فإن علاقاتهم مع السعودية ستعود إلى طبيعتها.
وعندما زار الرئيس التركيّ قطر الشهر المنصرم ، جرى الحديث عن لقاء لم ينجح بين ولي العهد السعودي والرئيس التركي، كما أنّ ابن سلمان رحب بأردوغان في فبراير/ شباط الماضي معتبراً أن “التواصل قد تطور إلى مستوى يمكن للطرفين فيه تسوية خلافاتهما”، على أساس أنّ العلاقات المتوترة لم تنفع أي منهما، ومن خلال إعادة العلاقات يمكن أن تشهد ملفات أخرى بعض الحلحلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويمكن وضع حد للعناء الإقليميّ، القائم نتيجة تلك الصراعات، كما يمكن أن يساعد التطبيع على تطوير علاقاتهما خاصة في المجال العسكري.
موقف تركيّ هزيل
كانت تركيا تدعي بشكل متواصل بأنّها لم تُظهر أيّ عداء للسعودية خلال الفترة الماضيّة، وأنّ موقفها كان واضحاً للغاية بعد جريمة تقطيع الصحافيّ السعوديّ، جمال خاشقجي، في قنصليّة بلاده باسطنبول، موضحة أنّ هذا الموقف لم يكن موجهاً ضد القيادة والشعب في المملكة، إنما ضد قتلة خاشقجي وعدم تسليمهم للعدالة، وفق زعمها، فيما كانت أنقرة ترى وفق وزير خارجيّتها، أنّه يجب على السعودية وتركيا التعاون لمقابلة تطلعات الأمّة الإسلاميّة بصفتهما من أقوى دول العالم الإسلاميّ، بعد أن وجّه رجب طيب أردوغان، خارجيّة بلاده للتواصل مع الرياض لكي تتخذ الخطوات اللازمة في سبيل تسوية القضايا العالقة بين البلدين، والتي لا شك أن قضية خاشقجي على رأس قائمتها.
وعلى هذا الأساس، لم تتجهالعلاقات الاقتصاديّة القويّة بين السعوديّة وتركيا نحو المقاطعة التامة رغم أنّها انحدرت إلى مستويات متدنية، وهذا يبدوا جليّاً من تصريحات مسؤولي البلدين، بدءاً من السعوديّة التي نفت الأمر رغم أنّها استخدمته للضغط ع تركيا للتراجع عن تصريحاتها المعاديّة، وثانياً من تصريحات المسؤولين الأتراك الذين دعوا إلى تقارب مع الرياض لإنهاء الخلافات، لما فيه مصلحة البلدين المتصارعين بقوة على النفوذ في المنطقة.
كل هذا، على حساب قضية الصحفيّ جمال خاشقجي، الذي وصفت خطيبته الكاتبة التركية، خديجة جنكيز، الأحكام النهائيّة التي صدرت عن القضاء السعوديّ بالـ “مهزلة”، متهمة سلطات البلاد بإغلاق الملف دون الكشف عن هويّة المخططين الفعليين للجريمة، وقالت في تغريدة سابقة لها عبر تويتر: “إنّ المجتمع الدوليّ لن يرضى بتلك الأحكام التي تهدف إلى إغلاق ملف الاغتيال دون أن يعرف العالم من هو المسؤول الحقيقيّ عن تلك الجريمة البشعة”، وهذا بالضبط ما تريده الرياض من تركيا.
وعلاوة على ما تقدّم، يبدو أنّ تركيا الغارقة بالنزاعات في العالم المنطقة، رضيت أخيراً بتلك المحاكمة التي غاب عنها الجمهور والصحفيون، ولم تسمح لأحد بمعرفة الحقيقة ولا بكشف ما حصل في مسرح الجريمة أيّ القنصليّة السعوديّة باسطنبول، ومن أصدر الأمر بارتكاب جريمة الدولة تلك، وتناست تصريحات الرئاسة التركيّة التي أكّدت فيها أنّ الأحكام السعوديّة في قضية مقتل خاشقجي عام 2018 لم يحقق توقعات أنقرة، وغضّت الطرف عن دعواتها للسلطات السعوديّة بالتعاون مع لجنة التحقيق التركيّ، فمصالح أنقرة أهم من معرفة ما حدث لجثة الصحافيّ السعوديّ ومن أراد قتله أو ما إذا كان هناك متعاونون محليون في جريمة اغتياله.
كذلك من الآن فصاعداً ستوقف تركيا عن تحركاتها الدوليّة المختلفة للحيلولة دون إغلاق ملف جريمة خاشقجي، بغض النظر عن تحقيق العدالة ومحاكمة المسؤولين عن تلك الجريمة التي نُفذت على أراضيها، وإنّ المحكمة التركيّة في إسطنبول المسؤولة عن محاكمة غيابيّة لسعوديين متهمين باغتيال خاشقجي، بينهم النائب السابق لرئيس الاستخبارات، أحمد عسيري، والمستشار السابق في الديوان الملكيّ، سعود القحطاني، المقربان من ولي العهد، سيغلق للأبد.
في النهاية، نجح محمد بن سلمان في استثمار علاقاته مع تركية بما يخص محاولة التنصل من جريمة تقطيع الصحافيّ المعروف، الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة ويكتب في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكيّة، ولكن فقط على المستوى التركيّ وليس العالميّ، لأنّ ولي عهد السعودية الذي بات يوصف بـ “قاتل خاشقجي” من قبل المنظمات الحقوقيّة الدوليّة، لن يستطيع تبرئة نفسه بشكل كامل رغم الأموال الطائلة التي تُصرف في هذا الإطار، بعد أدخل نفسه بالكثير من الأزمات الداخليّة والقضايا الخارجيّة المعقدة، وهو أولاً وأخيراً سيتحمل المسؤولية المباشرة عن اغتيال جمال خاشقجي، رغم محاولته إغلاق ملف الجريمة عبر وسائل عدة.
المصدر/ الوقت